للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق كما لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو: أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر، وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة. والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط. وقيل: المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل، ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الاستتار. وفي الكشف أن المطابقة بين قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وقوله سبحانه وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى وجعلنا النوم من حيث إن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحيّ ومنه علم أن قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه. وفيه تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهها بالقباب المبنية على سكنتها. وقيل: للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك. وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلنا سقفا في آية أخرى. وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن. كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرش مشابه لتحدب الأرض فيه، لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسّا فكذا سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية، وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا. وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم، وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته. بقي هاهنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة

المنكرون للعبث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة، فيقال: إن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة وهم المكذبون بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي،

<<  <  ج: ص:  >  >>