للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعالى أَكْرِمِي مَثْواهُ [يوسف: ٢١] . وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى الشهوات وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها. وعن ابن عباس ومقاتل إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يديّ ربه سبحانه فيخاف فيتركها، وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه. قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه.

وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي:

فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به شر منزع

ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع

إلى غير ذلك. وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلّا أن السالم من الموافقة قليل قال سهل: لا يسلم من الهوى إلّا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى له لا غيرها، والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة.

وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزير بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطا في دمه قال: «عند الله تعالى احتسبك» وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال: ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا.

وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان.

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها، فالمرسى مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها، وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل. وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله: كما أن إلخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الاستعارة يجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل. وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلّا قليلا، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: ٤٨، النمل: ٧١، سبأ: ٢٩، يس: ٤٨، الملك: ٢٥] والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلّا عشية إلخ. وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث

<<  <  ج: ص:  >  >>