للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ملاحظة ربّك والانقطاع إليه وترك الالتفات إلى ما سواه عز وجل كما كنت أولا كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها، وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهي إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا، فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييبا لقلبها بأن الأمر قد انتهى. وفرغ منه وليس بعد إلا كل خير. ونداؤها بعنوان الاطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع أقدم ولا تحجم، والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه إِلى رَبِّكِ على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إليّ راضِيَةً أي بما تؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك مَرْضِيَّةً أي عند الله عز وجل قيل: المراد راضية عن ربك مرضية عنده، وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر. والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة، وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] .

فَادْخُلِي فِي عِبادِي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم وَادْخُلِي جَنَّتِي عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيّز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكأن الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح، والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم. ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات.

وتعدى الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال أبو حيان: لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي، تقول: دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل. وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية، واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك، وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: ٨٥] على ما

روي عن أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة

وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلّا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض، والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين. وقيل: المراد ارجعي إلى أمر ربك، واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع، وقيل: المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضا. وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث، فقيل النفس بمعنى الذات أيضا، والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به

<<  <  ج: ص:  >  >>