فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الغل منه ففداني
وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفرّاء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف الرقبة بالإعتاق.
وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن «أعرابيا قال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: «أعتق النسمة وفك الرقبة» قال: أو ليسا بواحد؟ قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها» الحديث.
وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى، ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه. وجاء في فضل الإعتاق أخبار كثيرة منها ما
أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج»
. وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام. وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره. وقال الإمام: في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان: وهو الجوع العام، وقد يقال: سغب الرجل إذا جاع. وقال الراغب: هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له. ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب، وليل نائم ذو نوم، ونهار صائم ذو صوم يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى. قال الزجاج: وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر. قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور
وفيه بحث. وفي إِطْعامٌ هذا جمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما. وقيل: إنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له قرب بالجوار أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل أثرى. وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء. وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا بيت له وهو قريب مما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا: «هو الذي مأواه المزابل»
فإن صح لا يعدل عنه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلّا التراب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه إنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد، والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على ما في البحر للتنويع. وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: ٣١] وقول الحطيئة:
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وشذ قوله:
لا هم إن الحارث بن جبله ... جنى على أبيه ثم قتله