وأخرى كافرة- بالنصب فيهما وهو على المدح في الأولى والذم في الثانية، وقيل: على الاختصاص، واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة، وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له في النحو كما في
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا- كما قاله الحلبي- وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل: الْتَقَتا مؤمنة وكافرة، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال، وقرئ بالجر فيهما على البدلية من فِئَتَيْنِ بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا كما في قوله:
وكنت كذي رجلين- رجل صحيحة ... ورجل رماها صائب الحدثان
وقوله سبحانه: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ في حيز الرفع صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية.
والمراد كما قال السدي: ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة مثلي عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا كلهم شاكو السلاح،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود كانوا ألفا
وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل، وأبو سفيان، وغيرهما، ومن الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس، روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفا وتسعمائة- وهو المراد من يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين إليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم، وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام، أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين علي الكرار كرم الله تعالى وجهه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا، ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ومن السلاح ست أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار- وقد مرت إليه الإشارة- وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم عند الترائي ليجترئوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: ٦٦] قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية: والأول هو أولى لأن رؤية المثلين غير معينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر- كما في الأنفال- لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل