الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى، وقد تقدم الكلام في مَرْيَمَ وزنا ومعنى، وقد اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى- جارية- ويقرب أن يكون القول المعول عليه، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع، واستدل بتغاير المفعولين على تغاير الاسم والمسمى، وقد تقدم البحث فيه وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ عطف على إِنِّي سَمَّيْتُها وأتى هنا بخير إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف وَضَعَتْها وسَمَّيْتُها حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ به على المعطوف الآتي اهتماما به، ومعنى أُعِيذُها بِكَ أمنعها وأجيرها بحفظك، وأصل العوذ كما قال الراغب: الالتجاء إلى الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال: عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية وقرأ أبو جعفر، ونافع- «إنّي» - بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين بِعَهْدِي أُوفِ [البقرة: ٤٠] وآتُونِي أُفْرِغْ [الكهف: ٩٦] وَذُرِّيَّتَها عطف على الضمير المنصوب، وفي النصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر، وطلب للتناسل منها هذا إذا أريد بالإعاذة مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود، وأصل الرجم: الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله، وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير، ويؤيد هذا ما
أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسّه صارخا إلا مريم وابنها»
وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب،
وفي رواية إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:«قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما»
وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأژنها خبر واحد على خلاف الدليل، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين، وأيضا لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء، وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٣٩، ٤٠، ص: ٨٢، ٨٣] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... - يكون بكاء الطفل ساعة يولد-
وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه انتهى.
ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في الصحاح والأمر لا امتناع فيه، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتق بالقبول، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخا فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك، وقوله: لامتلأت الدنيا عياطا قلنا: هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف
وفي الصحيح «لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل» ؟ وفي رواية «لاختطفتكم الجن»