لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه:
خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المراد وقربه
وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
(القسم الثاني) محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلّى الله عليه وسلم
بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» ،
وقالت رابعة رحمها الله تعالى:
أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد (والقسم الثالث) محبة خواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن
«كنت كنزا مخفيا»
وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل:
يقولون إن الحب كالنار في الحشا ... ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ... ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
يكفي في شرح الحب لفظه فإنه- حاء، وباء- والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده أن يرزقه بِغَيْرِ حِسابٍ تقدم معناه، والجملة تعليل لكونه من عند الله، والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل النصب داخلة تحت القول، وقال الطبري: إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه تعالى إخبارا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والأول أولى،
وقد أخرج أبو يعلى عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء أكله فإني جائع؟ فقالت: لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت: لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال: هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى، وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبتي هو من عند الله إن