للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يكون الغلام لك، وتكون الجملة حينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم.

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على العلوق، وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن، وقيل:

ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا معتادا، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول السدي: إنه سأل الآية- ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان- ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفا، والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما آيَةً، وثانيهما لِي والتقديم لأنه المسوغ لكون آيَةً مبتدأ عند الانحلال، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو آيَةً ولِي حينئذ في محل نصب على الحال من آيَةً لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها- كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة- ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال: ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري، وقال أبو مسلم بأنه اختياري، والمعنى- آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح- ولا يخفى بعده هنا، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا- وإلى ذلك ذهب عطاء- وهو خلاف الظاهر، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي متوالية، وقال بعضهم والمراد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة مريم: ثَلاثَ لَيالٍ [مريم: ١٠] والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ منها وأخرى على (ثلاث ليال) وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر، قيل: وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه، واعترض بأن- آية الليالي- متقدمة نزولا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها- آية الأيام- مدنية، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر.

فالبحث محتاج إلى تحرير بعد، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء حق النعمة كأنه قيل له: آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام: لم تقول ما لا نفهم؟ فقال: لم لا تفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى.

وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب- حسنات الأبرار سيئات المقربين- ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول، ومذهب قتادة- لا آمن على الأقدام الضعيفة- قتادة إِلَّا رَمْزاً أي إيماء وأصله التحرك يقال: ارتمز أي تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال: الإشارة باليد والوحي بالرأس فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر:

ما في السماء من الرحمن «مرتمز» ... إلا إليه وما في الأرض من وزر

<<  <  ج: ص:  >  >>