للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعلل به التعذيب الأخروي، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: ٤٢] وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه، واستشكلت هذه الآية بناء على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلّى الله عليه وسلم كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] ، وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه صلّى الله عليه وسلم، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناء على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاد المأذون به.

وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الإذن وأيّا ما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم.

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة له وتقديم الخبر للقصر، وَما عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين، أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا واقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة مَنْ في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه.

وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لا ثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح- وهو مذهب الجماعة- وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا، وتمسكوا في ذلك بوجهين: الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة، الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة، وقالوا: إن المراد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بقوله جل شأنه: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر لِمَنْ يَشاءُ وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين، وبما روي عن عطاء يَغْفِرُ لِمَنْ يتوب عليه وَيُعَذِّبُ مَنْ لقيه ظالما والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات، وأجابوا عن متمسك المخالف، أما عن الأول فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد، وأما عن الثاني فبأن مجرد

<<  <  ج: ص:  >  >>