وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها، والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلا بعلم واجب، والمؤمنون يعلمونه مجملا بأمارات، ويجوز أن تكون الجملة حالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق، وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم الَّذِينَ قالُوا مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون كأنه قيل: والله أعلم بما يكتم الذين قالوا، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين، وقيل: مبتدأ خبره قل فادرؤوا بحذف العائد أي قل لهم إلخ، أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا، أو بدل منه، أو مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم، أو قلوبهم، وجاء إبدال المظهر من ضمير الغيبة في كلامهم، ومنه قول الفرزدق:
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم
بجر حاتم بدلا من ضمير جوده لأن القوافي مجرورة، والمعنى يقولون بأفواه الذين قالوا، أو يقولون بأفواههم ما ليس في قلوب الذين قالوا، والكلام على الوجهين من باب التجريد كقوله:
يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا من كف من بخلا
والقائل كما قال السدي وغيره: هو عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وقد قالوا ذلك في يوم أحد لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقتلوا في ذلك اليوم، والمراد لذوي قرابتهم أو لمن هو من جنسهم وَقَعَدُوا حال من ضمير قالُوا وقد مرادة أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال، وجوز أن يكون معطوفا على الصلة فيكون معترضا بين قالوا ومعمولها وهو قوله تعالى: لَوْ أَطاعُونا أي في ترك القتال ما قُتِلُوا كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله ابن أبيّ في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ قالوا له: ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إلخ، وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبيّ عند المشاورة من المقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به- ولا يخلو عن شيء- بل قال مولانا شيخ الإسلام: يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند المشاورة قُلْ يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة فَادْرَؤُا عليه، ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر، ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم القعود عن القتال، والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد، أما الأول فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية، وأما الثاني فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء، وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهم لديكم، وقيل: متعلق الصدق ما صرح به من قولهم: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين، وحينئذ يكون فَادْرَؤُا إلخ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فَادْرَؤُا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص،