ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال إياك نعبد كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: ١٠٢] وقوله تعالى: حكاية عن موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: ٦٩] فصبر الذبيح لتواضعه بعدّ نفسه واحدا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلّا منهما عليهما السلام قال: إن شاء الله وقيل الضمير في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ» على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم، الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة وله وجوه: الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: ٧٣] فاهتم للأداء فقدم، الثاني: أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: وإياك نستعين ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه، الثالث: أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم، الرابع: أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه ادعى للإجابة.
الخامس: أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه، السادس: أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم، السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية، الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ.
التاسع: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي، العاشر: أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي.
الحادي عشر: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: إياك نعبدوا بعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال إياك نعبد وهنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: ١] فطلب التمكين بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ واستعاذ عن التلوين بقوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فصعد مستكملا ورجع مكملا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين، البحث الرابع في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى