ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية، وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لازدياد الآثام، وفي هذا الوعد والوعيد أيضا ما لا يخفى من التسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الكلام السابق، وقيل:
الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريعته لهم، ولا يخفى أنه بعيد فضلا عن كونه أقرب، والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين والمنافقين ففيه التفات في ضمن التلوين، والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم ببعض واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم، وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير، وقال أكثرهم: إن الخطاب للمنافقين ليس إلا، ففيه تلوين فقط، وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين والتفات أيضا.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وابن جرير، وغيره عن قتادة أن للكفار، ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جدا، واللام في لِيَذَرَ متعلقة بمحذوف هو الخبر لكان، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها- كما ذهب إليه البصريون- أي ما كان الله مريدا لأن يذر المؤمنين إلخ وقال الكوفيون اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل بنفسها والخبر هو الفعل ولا يقدح في عملها زيادتها إذ الزائد قد يعلم كما في حروف الجر المزيدة فلا ضعف في مذهبهم من هذه الحيثية كما وهم، وأصل يذر يوذر فحذفت الواو منها تشبيها لها بيدع وليس لحذفها علة هناك إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وما هو في تقدير الكسرة، وإنما فتحت الدال لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ومثله- يسع ويطأ ويقع- ولم يستعملوا من يذر ماضيا ولا مصدرا ولا اسم فاعل مثلا استغناء بتصرف مرادفه وهو يترك.
وقوله تعالى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ غاية لما يفهمه النفي السابق كأنه قيل: ما يتركهم على ذلك الاختلاف بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وليس غاية للكلام السابق نفسه إذ يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية، ويفهم منه كما قال السمين: إنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه، وليس المعنى على ذلك وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلا على كل منهما بما يليق به وإشعارا بعلة الحكم، أفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذانا بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين، وقيل: إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون.
وقرأ حمزة والكسائي «يميّز» بالتشديد وماضيه ميز، وماضي المخفف ماز، وهما- كما قال غير واحد- لغتان بمعنى واحد، وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح، لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد، ونظير ذلك عاض وعوض، وعن ابن كثير أنه قرئ «يميز» بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز، واختلف بم يحصل