للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظالما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل: إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده، وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في بِظَلَّامٍ باعتبار الكمية لا الكيفية، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا، وبأن بِظَلَّامٍ للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلا وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالما سبحانه لكان ظلاما فنفى اللازم لنفي الملزوم، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثوبتها أن تكون ناقصة، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام الَّذِينَ قالُوا نصب أو رفع على الذم، وجوز أن يكون في موضع جرّ على البدلية من نظيره المتقدم.

والمراد من الموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا هذا القول: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا في التوراة وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ أي بأن لا نصدق ونعترف لِرَسُولٍ يدعي الرسالة إلينا من قبل الله تعالى حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرها- كما قاله غير واحد- وقرئ بِقُرْبانٍ بضمتين تَأْكُلُهُ النَّارُ أريد به نار بيضاء تنزل من السماء ولها دويّ، والمراد من أكل النار للقربان إحالتها له إلى طبعها بالإحراق، واستعماله في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وقد كان أمر إحراق النار للقربان إذا قبل شائعا في زمن الأنبياء السالفين إلا أن دعوى أولئك اليهود هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك، ولما كان مرامهم من هذا الكلام الباطل عدم الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا، ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان بزعمهم ردّ الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: قُلْ يا محمد لهؤلاء القائلين تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ كثيرة العدد كبيرة المقدار مثل زكريا ويحيى وغيرهم مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحة والحجج الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم وحقية قولهم كما كنتم تقترحون عليهم وتطلبون منهم وَبِالَّذِي قُلْتُمْ بعينه وهو القربان الذي تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي فما لكم لم تؤمنوا بهم حتى اجترأتم على قتلهم مع أنهم جاؤوا بما قلتم مع معجزات أخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه، والخطاب لمن في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان الفعل لأسلافهم لرضاهم به- على ما مرّ غير مرة- وإنما لم يقطع سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان المذكور لعلمه سبحانه بأن في الإتيان به مفسدة لهم، والمعجزات تابعة للمصالح، ونقل عن السدي أن هذا الشرط جاء في التوراة هكذا: من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير

<<  <  ج: ص:  >  >>