للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات،

وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله، وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله،

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة» ، وعنه أيضا مرفوعا بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم إن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له،

وأخرج ابن المنذر عن عون قال: سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال: سمعت غير واحد- لا اثنين ولا ثلاثة- من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان- أو نور الإيمان- التفكر، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف- وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل، وظاهر ما

أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة-

إما للايذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير اليه، وإما للاشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب.

رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى المخلوق، أو إلى الخلق على تقدير كونه بمعنى المخلوق، وقيل: إليهما باعتبار المتفكر فيه وعلى كل فأمر الأفراد والتذكير واضح والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتني بكمال تمييزها استعظاما لها، ونظير ذلك قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩] والباطل العبث وهو ما لا فائدة فيه مطلقا أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة، وقيل: الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوة وصلابة ولا يخفى أنه قول لا قوة له ولا صلابة، وهو إما صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا، أو حال من المفعول.

والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق، أو المتفكر فيه العظيم الشأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها، ومن جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك.

والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر أي يقولون «ربنا» إلخ، وجملة القول حال من المستكن في يَتَفَكَّرُونَ أي يتفكرون في ذلك قائلين رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، وإلى هذا ذهب عامة المفسرين.

واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده لما أن «ما» في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادئ الحكم الذي أجري على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم لله تعالى في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب، ولا ريب أن قولهم ذلك ليس من مبادئ الاستدلال المذكور بل من نتائجها المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل، فاللائق أن تكون جملة القول استئنافا مبينا لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئا مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص

<<  <  ج: ص:  >  >>