العطف، وجعل المخاطب- بخلقكم- من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون وَبَثَّ مِنْهُما إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامّا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامّا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب. والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا.
والمعطوف متكفل ببيان ذلك، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى، والتلوين في رِجالًا وَنِساءً للتكثير، وكَثِيراً نعت ل رِجالًا مؤكد لما أفاده التنكير، والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد أو لرعاية صيغة فعيل، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثا كَثِيراً ولهذا أفرد، وجعله صفة حين- كما قيل- تكلف سمج، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات، بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره، وقيل: ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى، وقرئ- وخالق، وباث- على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو- زيد راكب وذاهب- أي وهو- خالق وباث.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ تكرير للأمر الأول وتأكيد له، والمخاطب من بعث إليهم صلّى الله عليه وسلم أيضا كما مر، وقيل: المخاطب هنا وهناك هم العرب- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لأن دأبهم هذا التناشد، وقيل: المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا وهنا العرب خاصة، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل: اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها.
وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال، فإن قول القائل لصاحبه:
أسألك بالله، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتَسائَلُونَ إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا فالمفاعلة على ظاهرها، وإما بمعنى تسألون- كما قرئ به- وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة- «تتساءلون» - بتاءين فحذفت إحداهما للثقل، وقرأ نافع وابن كثير وسائر أهل الكوفة تَسائَلُونَ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس وَالْأَرْحامَ بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمرا، وينصره قراءة- «تساءلون به وبالأرحام» وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى، ويقولون:
أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم- كما أخرج ذلك غير واحد- عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى، وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد، والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر