أن يثبت أصل الجواز، ثم قال: واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحسر على أمرين: الأول الخبر، وهو ما
روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق سائرهن»
وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، والثاني أنه صلّى الله عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع والبواقي غير جائز إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان: الأول أن الإجماع لا ينسخ به (١) فكيف يقال: إن الإجماع نسخ هذه الآية، الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد.
وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته فلا تضر في انعقاد الإجماع انتهى، ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا.
وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام.
والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يرد عليه أن قول الإمام فيه: إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع، كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر؟ وبتقدير عدم دلاله على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غياة الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه، فيكون حينئذ مجملا، وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول، وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيف- بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع- مما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعا وثبوت
«اختر منهنّ أربعا» كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان،
وكذا
في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحارث الأسدي أنه قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهنّ أربعا وخل سائرهنّ ففعلت»
فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها أن المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات، فالاحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم، ولو اعتبر مثله- قادحا في الدليل- لم يبق دليل على وجه الأرض، نعم الحديث مشكل على ما ذهب اليه الإمام الأعظم على ما نقل ابن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذ لا اختيار، وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده.
وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي، وإلا لا يوجد إجماع أصلا، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي- وهو أحد مذاهب في المسألة- من أن
(١) أي عند الجمهور اهـ منه.