ثُمَّ إنّه لو صحّت هذه الرواية، لما انتهضت لدفْع حكم التحريم في شدّ الرحال إلى زيارة القبور؛ ذلك: أن هذا التحريم إمّا أن يكون مستفادًا من العموم المقدّر فيه المستثنى منه، وإمّا أن يكون منتزعًا بدلالة مفهوم الأَولى؛ وذلك على فرض التسليم بصحة هذه الرواية؛ فإنه إذا ثبت النهي عن شد الرحال إلى مسجدٍ غير المساجد الثلاثة، مع كون المساجد أفضل البقاع، وهي بيوت الله تعالى، ومظنّة حصول الشرك فيها منتفية فغيرها من باب أَوْلَى. وهذا لا يُماري فيه كلّ مَن نظر بإنصاف، ولم يهُلْهُ كثرة المخالفين من المتأخّرين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (بخلاف السَّفر إلى البقاع المعظّمة؛ كطور موسى، وكقبور الأنبياء والصالحين؛ فإن الصحابة والتابعين، والأئمة، فهموا دخولها في الحديث، ولم يكن في السَّلف من يُنكِر دخولَها في الحديث. ودخولُها على أحد وجهين:
إن قيل: إن المستثنى منه: جنس البقاع المعظّمة؛ فقد دخلت هذه، فلا يُشرع بطريق الأولى؛ فإن المساجد أفضلُ البقاع؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أحبّ البقاع إلى الله المساجدُ، وأبغضُ البقاع إلى الله الأسواقُ) (١)
والمساجدُ يُؤمر بقصدها، ويُسافَر إلى بعضها، ويجب السفر إلى بعضها؛ فإذا كانت لا يُشرع السفر منها إلى غير الثلاثة = فغير المَساجدِ أَولى أَن لا يُشرع السفر إليها. ولهذا لم يقل أحدٌ من علماء المسلمين: إنَّه يُسافر إلى زيارة القبور، ولا يُسافر إلى المساجد. وإنّما حُكِي عن بعضهم العكس. . . ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إِنَّه مَنْ نذر السَّفرَ
(١) أخرجه مسلم بنحوه: كتاب "المساجد" باب: "فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح" (١/ ٤٦٤ - رقم [٦٧١])