للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال له رجل: (يا خير البرية، فقال: ذاك إبراهيم) (١)

فكيف مع هذا التوقير والتعزير يُطلقُ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - على كلمات إبراهيم - عليه السلام - أنَّها: (كذبات) وهو يعلم أنها ليست من الكذب في شيء، ومما يؤكد ذلك:

الثالث: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها خطيئة كما في الحديث "

ونظمها مع خطايا الأنبياء الآخرين كأكل آدم من الشجرة، وقتل موسى للقبطي، وحكى إبراهيم أنها تقصر به عن مقام الشفاعة. (٢)

ولكن يمكن الإجابة عن تلك الاعتراضات:

بأنَّ المتأمِّل فيما قصه الله عن إبراهيم - عليه السلام -، وما ذكره المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عنه يجد أنَّ كلمات إبراهيم - عليه السلام - لا تخرجُ عن رَسْمِ المعاريض والتورية، فأعلامُ الصدق من جهة قصده ومرامه لائِحةٌ باديةٌ، وأمَّا كون النبي - صلى الله عليه وسلم - مع توقيره الشديد لنبي الله إبراهيم - عليه السلام -، أطلق عليها"كَذبات".

فيقال: فبالنسبة لما أطلقه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وإبراهيم - عليه السلام - كذلك، فهو لا شكَّ أَنَّه حق وصدق، لا ينكر، ولم يمنع المحققون القائلون بأنها من باب المعاريض والتورية، من إطلاق ما أطلقه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذهبوا إلى تخطئة من قال إنَّه لا يجوز إطلاق الكذب على تلك الكلمات، فترى مثلًا الإمام المازري ينصُّ على ذلك بقوله: (وقد تأوَّل بعضهم هذه الكلمات، وأخرجها عن كونها كذبًا. قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظٍ أطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قلت (٣): أما إطلاق اللفظ عليها فلا يمتنع لورود الحديث به، وأما تأويلها فصحيح لا مانع منه .. ) (٤) أَمَّا تأويلها بما يُخرجُ اللفظ عن مضمونه، فلا يصحُّ، ولكن تأويل الحديث بما سبق بيانه من أن نسبة الكذب إليها من جهة إيهام السامع بخلاف مراده عليه السلام فهذا حمل يقْبله الحديث، وتأتلفُ به الدَّلائلُ.

وأمَّا كون النبي - صلى الله عليه وسلم - نَظَمَها في سِلْكِ خَطَايا الأَنبياء عليهم السلام؛ فلأن كلمات إبراهيم - عليه السلام - قد تضمنت كما سبق كذبًا من جهة إفهام السامع خلاف ما قصد، هذا من جِهة .. ومن جهة أُخرى فإنَّ الأنبياء لعظيم وَجَلِهم من الله تعالى، وتعظيمهم مقامه=يرون أن مثل هذه المعاريض -مع كونها كانت لمصلحةٍ راجحة - من الخطايا العِظَام التي يُستحي منها لعِظيم إجلالهم وخوفهم من الله تعالى لذا رأى إبراهيم - عليه السلام - أنَّ تلك الكلمات مما تَقْصُر به عن القيام في أجلِّ المقامات يوم القيامة، وهو مقام الشفاعة.

أمَّا القول الثاني: أن كذبات إبراهيم - عليه السلام - كانت كذبًا محضًا في ذات الله.

واعتلّوا في ذلك بما تقدم ذكره بالإضافة إلى أن الوقوف عند لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول إبراهيم - عليه السلام - أَولى من التأويل وصرف اللفظ عن ظاهره.

وهذا القول، هو ظاهر اختيار الإمام الطبري، والإمام البغوي -رحمهما الله-

يقول الإمام الطبري: (وقد زعم بعض من لا يصدِّقُ بالآثار، ولا يقبل من الأَخبار إلَاّ ما استفاض به النَّقلُ من العَوام: أَنَّ معنى قوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا (٦٣)} الأنبياء. إِنَّما هو: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم، أي إن كانت الآلهة المكسورة تنطق، فإن كبيرهم هو الذي كسرهم (٥)

وهذا قول خلاف تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن إبراهيم لم يكذب إلاّ


(١) أخرجه مسلم كتاب "الفضائل" باب" من فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام" (٤/ ١٨٣٩ - رقم [٢٣٦٩])
(٢) انظر: "القائد إلى تصحيح العقائد"للمُعَلِّمي (٨٨ - ٨٩)
(٣) القائل: النووي.
(٤) "شرح النووي لصحيح مسلم"للنَّووي (١٥/ ١٢٤)
(٥) وقد ضعف هذا الوجه أيضًا الإمام البغوي في معالم التنزيل (٣/ ٢٤٩) ووجه ضعفه أمران:
الأول: ما فيه من تكلَّف ومخالفةٍ لظاهر الحديث.

الثاني: أنَّ هذا التوجيه مبني على أن إبراهيم - عليه السلام - كان عربي اللسان، وما كان كذلك.

<<  <   >  >>