وهذا القول استظهره القرطبي - رحمه الله - فقال:(وقد أظهر لي ذو الطَّولِ والإِفْضَال وجهًا حسنًا يحسِمُ مادةَ الإشكال وهو أنَّ موسى عرف ملك الموت وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تعالى لايقبض روح نبي حتى يخيره» فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي أُعلم به بادر بشهامته وقوة نفسه إلى تأديب ملك الموت فلطَمَه فانفقأت عينُه امتحانًا لملك الموت إذ لم يصرِّحْ بالتخيير، ومما يدلُّ على صحة هذا أنَّه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الموت والحياة اختار الموت، واستسلم= وهذا الوجه -إن شاء الله - أحسن ماقيل فيه وأسلم)(١) .
لكن يقال: الإشكال مازال قائمًا؛ إذ إن هذا التوجيه لا يليق بجناب نبي الله موسى - عليه السلام -؛ فعدم تخييره لا يستلزم استطالته على الملك باللطم؛ لأنَّ الملك رسول ربِّ العالمين يقوم بإنفاذ ما طُلب منه، فالإشكال قد يزداد بهذا التوجيه ولا يندفع.
الأوَّل: لم أَر -بحسب اطلاعي - من اعترض على هذا التوجيه خلافًا للتوجيهات الأُخرى فكلها فوِّقت لها سهام النَّقد والاعتراض.
الثَّاني: جلالة القائلين به في العلم، والدِّيانة، والتحقيق. وهذا مما يستأنسُ به، ويرجِحُ بكفة هذا التوجيه، ويكفي كما سبق أنَّ من القائلين به إمام الأئمة ابن خزيمة، وابن حبان. وغيرهما من أَرباب التحقيق والرُّسوخ العلمي.
الثَّالث: وجاهةُ القولِ في نَفْسه، وتَمَشِّيه مع المُحْكم المعلوم من سُموِّ أَخلاق الأَنبياء، وصَلَابةِ ديانتهم، وتحاميهم عمَّا يقبحُ.
فإذا تقرَّر هذا عُلم بطلان ما اعترض به أولئك الطاعنون على هذا الحديث، وكان الّذي يقتضيه التحقيق هو عدم التسارع لردِّ السُّنن بمجرد انقداح الشُّبه، وتوارد الإشكالات، فلو أنّ كلَّ حديث استُشْكِل متنُه، ولم تُحِط العقول الكليلة بمعناه، رُدَّ بمقتضى ذلك ولم يقبل=لعُطِّلتِ السُّنن.