للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجواب عن المعارض الثالث: وهو دعواهم: أنّ ذلك مناف لما ينبغي أن يكون عليه عباد الله الصالحون؛ فضلًا عن أنبياء الله فضلًا عن أولي العزم مما ينبغي أن يكونوا عليه من عظيم الشوق للقاء الله، وأَنَّ الّذي يدل انتفاء هذه الرَّغبة والشوق عند موسى - عليه السلام -، قول الملك حينما قال شاكيًا لله تعالى: أرسلتني إلى عبد لايريد الموت.

فيقال:

أولًا: ما ذكره ملك الموت - عليه السلام - هو مبلغ علمه من حاله - عليه السلام -، وقد وقع نظيره من الملائكة حين خَفِي عليهم حكمةُ الله في استخلافه لأَبي البشر آدم - عليه السلام - في الأرض، فانظر إلى قوله تعالى حاكيًا خفاء حكمته جلَّ وعلا على ملائكته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)} البقرة. (فهذا الذي ظنه الملائكة بآدم - عليه السلام - هو نظير ما ظنه ملك الموت هنا بموسى عليه السلام، وهذا الذي أجاب الله تعالى الملائكة به في هذه الآية هو عينُ الجواب لملك الموت هنا المستفاد مما اختاره موسى أخيرًا) (١) ثُمَّ يقال:

ثانيًا: إنَّه حين تحقق نبيُّ الله موسى - عليه السلام - مِن أَنَّ ذلك الذي جاءه المرة الأولى هو ملك الموت - عليه السلام - لم يدفعه بل حينما خيره ملك الموت - عليه السلام - بين البقاء في هذه الدنيا مُددًا طويلة بقدر ما تقع يده عليه من شعر الثور، وبين الموت = اختار - عليه السلام - الموت شوقًا للقاء ربِّه تعالى، ومما يدل على ذلك أَيضًا قوله - عليه السلام -: (أي ربِّ ثمَّ ماذا؟ قال: ثم الموت قال: فالآن) فقوله " فالآن" برهان على عدم رغبته البقاء في هذه الدُّنيا بعد إخبار الله تعالى له ببقائه إن أراد آمادًا طويلة، واختياره لقاءَ الله تعالى على البقاء.


(١) "توضيح طرق الرشاد" (٢٠٣)

<<  <   >  >>