للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومَن ألطَفَ النظرَ فيما انطوت عليه هذه الطعون تحصَّل لديه أنها لا تصدُر إلاّ مِمّن يَشكُّ في قدرة الخالق سبحانه وتعالى على خَرْقِ سنن الكون، لا ممّن يؤمن بالله تعالى، وبكمال قُدرته.

الهاوية الثانية: تأويل الحديث؛ تأويلًا يُخرِجُه عن حقيقته التي فهمها الجيل الأوّل - رضوان الله عليهم -. هذا التأويل لم يكن في دَرَكةٍ واحدةٍ؛ بل تفاوتت درَكَاتُه بحسب ما ارتآه كل فرد من أفراد المؤولين.

أمّا تأويل الحديث: فقد استرْوَح إليه عددٌ من المتأخرين.

ومن أولئك: [العلامة " شاه الدهلوي " (١) - رحمه الله -؛ حيث فسّر حديث الإسراء تفسيرًا يخالف ظاهره، ويؤول به إلى موافقة بعض الفلاسفة القائلين بـ "عالَم المُثُل "؛ فقال: (وأُسرِي به إلى المسجد الأقصى، ثم إلى سدرة المنتهى، وإلى ما شاء الله، وكلّ ذلك بجسده في اليقَظَة (٢)، ولكنّ ذلك في موطنٍ هو برزَخٌ بين المثال والشهادة، جامعٌ لأحكامها، فظهر على الجسد أحكام الروح، وتتمثّل الرّوح والمعاني الروحية أجسادًا؛ ولذلك بأن لكلّ واقعة من تلك الوقائع تعبيرًا. وقد ظهر لحزقيل، وموسى، وغيرهما - عليهما السلام - نحوٌ من تلك الوقائع، وكذلك لأولياء الأمة؛ ليكون علوّ درجاتهم عند الله كحالهم في الرُّؤيا. والله أعلم .... وأَمَّا ركوبه على البراق فحقيقته: استواء نفسه النطفية على نسمته التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبًا على البراق، كما غلبت نفسُه النطقية على البهيميّة، وتسلّطت عليها ... وأمّا ملاقاتُه مع الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - ومفاخرته معهم فحقيقتها: اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القُدُس، وظهور ما اختصَّ به من بينهم من وجوه الكمال.

وأمّا رُقيُّه إلى السموات؛ سماءً بعد سماء؛ فحقيقته: الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلةً بعد منزلة، ومعرفةُ حال الملائكة الموكّلة بها، ومَن لحق بهم من أفاضل البشر. والتدبير الذي أوحاه الله فيه، والاختصام الذي يحصل بين مَلَئها.

وأمّا بكاءُ موسى: فليس بجسدٍ، ولكنه مِثال لفَقْدِه عمومَ الدعوة، وبقاء كمالٍ لم يحصله مما هو في وجهه.

وأما سدرة المنتهى: فشجرةُ الكون، وترتّب بعضها على بعض، وانجماعها في تدبيرٍ واحدٍ؛ كانجماع الشجرة الغزية والنامية، ونحوهما. ولم تتمثّل حيوانًا؛ لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه بالسياسة الكليّ أفرادُه؛ وإِنَّما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان، فإن الحيوان فيه قُوىً تفصيلية، والإرادة فيه أصرح من سنة الطبيعة ... وأمّا الأنوار التي غشيتها: فتدلّياتٌ إلهية، وتدبيراتٌ رحمانية، تلعْلعت في الشهادة؛ حيثما استعدّت لها.

وأمّا البيت المعمور؛ فحقيقته: التجلِّي الإلهي الذي يتوجه إليه سجداتُ البشر وتضرُّعاتُها؛ يتمثّل مبيّنا على حَذْو ما عندهم من الكعبة وبيت المقدس ...

وأُمِر بخمس صلواتٍ بلسانٍ متجوّز؛ لأنها خمسون باعتبار الثواب، ثم أوضح اللهُ مرادَه تدريجيًا؛ ليعلم أن الحرج مدفوع، وأن النعمةَ كاملةٌ. وتمثَّل هذا المعنى مستندًا إلى موسى عليه السلام بأنه أكثر الأنبياء معالجةً للأمّة، ومعرفةً بسياستها ... ) (٣)] [*]

وأمّا محمد حسين هيكل فإنه أوَّلَ هذه الآية؛ بأنْ فسّرها تفسيرًا روحيًّا، لا يتحقق تحته أي وجود حقيقي لهذه المعجزة، فتراه يقول: ( ... ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحية معنىً سامٍ؛ غاية في السموّ، معنىً أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضَه من خيال المتكلمين حظٌّ غيرُ قليل.

فهذا الروح: القُوى قد اجتمعت فيه ساعة الإسراء والمعراج وحدةُ هذا الوجود، بالغةً غايةَ كمالِها. لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعات حجابٌ من الزمان، أو المكان، أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيًّا، محدودًا بحدود قوانا المُحِسّة، والمدبّرة، والعاقلة. تداعتْ في هذه الساعة كلُّ الحدود أمام بصيرته، واجتمع الكون كلُّه في روحه؛ فوعاه منذُ أزلِه إلى أبده، وصوّره في تطوّر وحدته إلى الكمال؛ عن طريق الخير، والفضل، والجمال، والحق؛ في مغالبتِها، وتغلُّبِها على الشرّ والنقص ... بفضلٍ من الله ومغفرة.

وليس بمستطيعٍ هذا السموَّ إلا قوة فوق قوة الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمدًا مَنْ عجِز عن متابعته في سموّ فكرته،


(١) هو العلامة الشَّاه ولي الله أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي الهندي (١١١٠ هـ-١١٧٦ هـ) من أفراد المتأخرين علمًا وعملًا، أحيا الله به الحديثَ والسُّنّة بالهند، من مؤلفاته: "شرح تراجم أبواب البخاري"، و"الفوز الكبير في أصول التفسير".=انظر: "فهرس الفهارس والأثبات"لعبد الحي الكتاني (١/ ١٧٨ - ١٨٠)، و"الإمام المُجدِّد الشَّاه ولي الله الدهلوي حياته ودعوته"لمحمد بشير السّيالكوني.
(٢) ظاهره إثباتُ حقيقة الإسراء؛ لكنّ ما بعده يناقض ذلك.
(٣) "حجة الله البالغة"للدهلوي (٢/ ١١٩٥ - ١١٩٧)

[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين معكوفين ليس في المطبوع، وأثبتناه من أصل الرسالة العلمية

<<  <   >  >>