وكذلك؛ فإن الإيمان بالغيب هو مقتضى الضرورة النَّفسيَّة؛ ذلك لأنَّه لا يوجد إنسان يستطيع الانفكاك عن حاجته للتفكير في الغيب، ونزوع نفسه إلى التأمل في قضايا تخرج من محيط الشهادة إلى دائرة الغيب. ولذا؛ فإن من طبيعة النفس البشرية الإيلاع بالبحث عن علل الأشياء، وتَطَلُّب أسْبابها المغيَّبة عن شهود الحِسّ لها.
لذا؛ كان الإيمان بالغيب من أخصِّ خصائص المؤمنين التي امتازوا بها عن الكافرين. يقول العلاّمة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مجلِّيًا هذه الخصيصة: (حقيقة الإيمان؛ هو التصديق التّام بما أَخبرت به الرُّسل، المتضمّن لانقياد الجوارح. وليس الشّأنُ في الإيمان بالأشياء المشاهدةَ بالحسّ؛ فإنّه لا يتميّز بها المسلم من الكافر = إنما الشّأنُ في الإيمان بالغيب، الذي لم نَرَهُ، ولم نُشاهدْهُ، وإنّما نؤمن به لخبر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلمُ من الكافر؛ لأنه تصديقٌ مجرَّدٌ لله ولرسله، فالمؤمن يؤمنُ بُكلِّ ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله سواء شاهده أو لم يُشاهده؛ وسواء، فَهِمَه وعَقِلَه، أو لم يهتدِ إليه عقلُه وفهْمُه. بخلاف الزنادقة المكذبين للأمور الغيبية؛ لأن عقولهم القاصرة المقصّرة لم تهتدِ إليها، فكذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه؛ ففسدت عقولهم، ومرجتْ أحلامُهم. وزَكَتْ عقولُ المؤمنين المصدّقين، المهتدين