للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكيف يحمل ما وجده المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من أَثَرِ لُعاب ذلك الجنِّي الذي اعترضه في صلاته = على أنّه لُعابٌ صادرٌ من تلك الأرواح؟!

وما تقدم ينبئك أن أرباب هذه المدرسة يخالفون النصوص؛ بدعوى مخالفتها للعقل، ثم تراهم يقعون في معاطِبَ أشنع في العقول ممّا زعموا الفرار منه.

وحاصل موقف الدكتور "محمد البهي" من الجنّ مضطربٌ، وهذا الاضطراب ناشئ عن مخالفة الضرورة الشرعية؛ فإنّ كلّ من خالفها فلا بدّ أن يقع له شيءٌ من هذا الاضطراب. فحمْله للجن في بعض الموارد على فريق خيِّرٍ من الإنس غريبٍ، وغير معهودٍ = مخالف للحقيقة الشرعية اللغوية العرفية. فإنّ هذا الاستعمال من كِيسِه، لا يُعرف له شاهد في جميع الحقائق الثلاث. فالاستعمال الشرعي لهذا اللفظ يُطلق ويراد به ما هو قسيمٌ للإنس والملائكة. ولم يجْرِ إطلاقه في عامّة ما ورد - بحسب النظر القاصر - على الإنس، ولا على الملائكة؛ إلَّا في موطن واحدٍ في القرآن، قد أشار إليه بعض أهل التفسير، في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الصافات: ١٥٨ فقد حمله بعضهم الجِنّة في هذا الموضع =على " الملائكة" (١) . فإنَّ صحَّ هذا الحمل، فيبقى أَنَّ الغالب في إطلاق اسم "الجن" على الخَلْق المعروف، ومن المتقرر في الأصول أن الشارع يطلق ألفاظه على عُرْفِه؛ وهو العرف الشرعي، لا على العرف الخاص للمخاطَب. والتقييد بالخاص هنا؛ لأَنَّ هذا العُرفَ تفرّد به - فيما أعلم - "البهيّ" عمّا هو معروف لدى عامَّة الناطقين بالعربية. فأنت ترى الإمام الجوهري - رحمه الله - حين أراد بيان حقيقة الجنّ العُرفية، قال: (الجنّ: خلافُ الإنس،


(١) انظر: " جامع البيان " الإمام ابن جرير الطبري (١٢/ ١٠٨) .

<<  <   >  >>