الإمكان إلى أن يتحصَّل له فيه مرجِّح أو مُوجِب، هذا على تقدير انتفاء دليل الإثبات، وإلَاّ فالضَّرورةُ العقليَّةُ تُحتِّم لزوم اليقين بوجودهم؛ لتضافُر الدلائل على ذلك. وترْكُ اليقين الثابت لطروء الشكّ خروجٌ عن سبيل العقلاء.
وبعد بيان ما في تلك المعارضات من وَهَن يبْتَعِد بها عن مُزاحَمة البراهين الشرعية يُشرع في بيان بطلان مَنْ تأوّل الجنّ تأويلًا ليس له حظٌّ من النَّظَر؛ فإِنَّ التأويلَ - كما تقدّم مرارًا - فرعٌ عن الاستحالة في بعض المقامات؛ ولا استحالة في حمل تلك الأدلّة على ما دلَّت عليه.
وما ذهب إليه "محمد عبده" بأنّ الشياطين هي أرْواحٌ تتّصل بأرواح الناس = من زعماته الكبار التي لا يشهد لها دليلٌ؛ بل إن الأخذ بما ذهب إليه أبعد في النقل والعقل. وبيان ذلك؛ أن يقال: إنّ علّة نَفْيه أن يكون للجنّ تمثُّلٌ جسمانيٌّ؛ هو: أنّ الحِسّ يقضي بامتناع ذلك = فلأنْ يكون امتناع أن يكون للجنّ أرواحٌ أَوْلى؛ لعدم تصديق النقل والحسّ لذلك.
وما لم يشهد له النقل والحسّ أَولى بالإبطال مما لم يشهد له الحسّ فقط. وبيان أن الحِسّ لا يشهدُ لهذا التأويل ظاهر، لا يفتقر إلى بيان. وأمّا عدم دلالة النقل على هذا القول؛ فبيانه: أن تلك الدلائل النقلية نعتت الشياطين والجنّ بنعوتٍ يقضي الناظر فيها أن هذه النعوت لا تصلح أن تضاف إلى مجرّد أرواحٍ. فكيف يحمل سماع الأذان الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جِنٌّ ولا إنسٌ إلاّ شهد له يوم القيامة)(١) على أنّه سماعٌ صادرٌ من أرواح؟ فهل من طبيعة الأرواح السماع؟!!.