للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك لذاته، ولا يلزم منه مُحال على تقدير إثباته، وأمَّا قوله "لو سُلِّط إبليس على الّناس ينخسهم لامتلأت الدُّنيا صُراخًا وعياطًا"= فكلامٌ يُشمتُ به الأعداء، لا، بل يُحزنهم عليه .. لأنّ نَبينا - صلى الله عليه وسلم - لم يُخبر بتسليط الشيطان على الإنسان بالنَّخسِ إلَاّ حالة الولادة، فكيف يتوجه منه هذا الإلحاد؟ ومن أين يلزم أن تمتلئ الدُّنيا صُراخًا وعياطًا؟ ولعلَّه إذا استقرئ البلد العظيم، وتصفَّح مَن وُلد فيه في يوم، لا يَبلغ عددًا يوجب أضعاف أضعافه بعض ما توهمه من امتلاء الدُّنيا صُراخًا .. ) (١) .

وإن كان مرامه هو المعنى الثاني = فيقال: هذا هو الواقع، فالدنيا لا تخلو من استهلال مولود صارخًا في كل وقت (٢)، فيستحيل اعتراض الزمخشري حينئذ إلى مخالفة الواقع. وبه يُعلم أن المخالف ناقَض ضرورتين: الضرورة الشرعية، والضرورة الحسية. فكان امتناع ما اعترض به أحرى من امتناع إجراء الحديث على معناه الظاهر.

والذي يتحرر: أن مقصود الزمخشري هو الأمر الأول، والذي يعضد ذلك: أن الآلوسي - رحمه الله - نقل عن القاضي عبد الجبار ما يفيد ذلك (٣) .

وأما الجواب عن الاعتراض الثاني، فيقال:

على تقدير أنّ ما يثبت في الطب بلغ إلى حدّ الحقيقة العلمية المقطوع بها؛ فإن قُصاراهُ: أن يكون كشْفًا عن السبب القريب المحسوس لاستهلال المولود صارخًا. وهذا التفسير العلمي لا يقضي بامتناع أسباب أخرى عَزُب الخلْق عن دركها؛ لقصور مداركهم عن الإحاطة بكل حقيقة. ومن هنا فليس هناك ما يمنع من تعليل هذه الظاهرة بسببين: أحدهما مُدرَك بالحس، والآخر غيبيّ دلّ عليه الوحي.


(١) "رموز الكنوز" (١/ ١٦٠) . وانظر: "التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال"للسكوني (٢/ ١٩) .
() انظر: "روح المعاني" (٣/ ١٣٧) .
(٢)
(٣) انظر: المصدر السابق.

<<  <   >  >>