[فوائد من حديث أول ما خلق الله القلم]
ونستدل بهذا على عدة مسائل في العقيدة، فنستدل به على أن القلم يتكلم وفائدة ذلك أنه لا يلزم من إثبات الكلام أن يكون له فم ولسان وأسنان وإلا قلنا: أين فم القلم وأسنانه ولسانه؟ مع أننا نعلم أنه لا مخرج له، فهذه دلالة على أن هناك مخلوقات تتكلم ولا نعلم كيفية كلامها ولا مخرج كلامها أيضاً، فمن باب أولى أن الله جل وعلا يتكلم ولا نعلم كيفية كلامه، فهذه هي المسألة الأولى.
المسألة الثانية: أن الله تعالى تكلم بحرف وصوت مسموع؛ لأنه قال: قال للقلم: اكتب.
المسألة الثالثة: أن جعل جماداً يتكلم، إذاً لا تقولون بالمجاز، ولا تقولون: إن الجبل يحب أي: أهل الجبل، ولا تقولون: إن الجدران في القرية تريد، أي: أهل القرية يريدون، فلا مجاز في القرآن على الراجح الصحيح.
وأما قول الله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:٧٧]، فهذا بالصريح الصحيح هو الجدار، وقد أفهم الله الخضر ذلك، ولم لا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، فإن الجبل يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون له قلب، كما أن الجذع بكى وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه الصحابة عندما كان يخطب النبي صلى الله عليه وسلم ويده على الجذع، فلما اعتلى المنبر أنّ الجذع أنيناً شديداً، ولم يسكت حتى وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه.
أيضاً الطعام تكلم بالتسبيح، فنحن لا نقول بالمجاز، بل نقول: قد يتكلم الجماد ويشعر كما ورد في النصوص، وقد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:٤٤].
إذاً: الكتابة هي: أن الله كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، وقد فرغ ربنا من أهل الجنة، ومن أهل النار، نقول هذا إجمالاً، أما التفصيل: فإن على المؤمن أن يؤمن بأربع كتابات: الكتابة الأولى: الكتابة الأزلية.
الكتابة الثانية: الكتابة السنوية.
الكتابة الثالثة: الكتابة العمرية.
الكتابة الرابعة: الكتابة اليومية.
والكتابة العمرية هي الكتابة التي تكتب في الرحم بعد مرور الأربعة أشهر للجنين في الرحم، حيث يأتي الملك فيقول: أي رب! ذكر أم أنثى؟ أي رب! شقي أم سعيد؟ أي رب! كم أجله؟ أي رب! ما رزقه؟ فيكتب كل ذلك بأمر الله جل وعلا، والمرء لا يزال في بطن أمه.
وقد قال ابن مسعود: (السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه) جاء أن بعض الناس طرقوا الباب على إبراهيم بن أدهم فوجدوه يبكي، فقالوا: ما يبكيك؟ إنك رجل على صلاح إنك تفعل كذا وكذا وكذا، قال: إليكم عني، فإني لا أعلم كتبت في بطن أمي شقياً أم سعيداً.
فهذه هي الكتابة الأزلية وأصلها حديث ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
الكتابة الثانية: الكتابة السنوية، وهذه تكون في ليلة القدر من كل سنة كما قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:٤]، قال ابن عباس: يكتب أهل الحجيج، ويكتب من يموت في هذا العام، ويكتب من يحيا ومن يولد، ويكتب الرزق ويكتب كل شيء في هذه الليلة، وهذه الكتابة على قول ابن عباس اسمها: كتابة عامية.
الكتابة الثالثة: الكتابة اليومية، والكتابة اليومية على أقسام: كتابة الملكين اللذين لا يفارقان ابن آدم بحال من الأحوال، كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] يعني: يكتب هذا الحسنات، ويكتب هذا السيئات، وهناك قسم آخر وهم ملائكة يكتبون الطاعات، ويسيحون في الأرض بحثاً عن مجالس العلم، فيكتبون أسماء من يجلس فيها بأسمائهم وأسماء آبائهم ويصعدون إلى الله، فيقول الملك: يا رب إن فلاناً هذا جاء لغرض، ولم يأت لطلب العلم، فيقال: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة يتقابلون في العصر، ويتقابلون في الفجر)، فالذين كانوا في الفجر يصعدون في العصر، فتخلفهم ملائكة يصعدون في الفجر يكتبون ما يفعل ابن آدم، فهذه كتابة يومية.
ومما يجدر التنبيه إليه في هذه المرتبة أن الكتابات لا تتغير في اللوح المحفوظ، فما كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير بحال من الأحوال، ولكن هل يمكن أن يتغير شيء من الكتابة في غير اللوح المحفوظ؟
الجواب
نعم، فهذا هو الراجح، وقد بين المؤلف الأدلة التي تدل على ذلك، وبهذا فلا إشكال في القدر.
ولذلك فإن الناس يسألون الله تعالى ما يريدون، فإذا بالدعاء والقدر أقواهما يرفع الآخر، يعني: أنه يمكن للدعاء أن يرفع القدر، ولكن كيف يرفع القدر وقد قلنا: إن الله كتب كل شيء في اللوح المحفوظ؟ نقول: نعم الدعاء يرفع القدر المكتوب في أيدي الملائكة لا المكتوب في اللوح المحفوظ.
أما الإشكال الثاني: فهل يكتب رجل في بطن أمه شقياً ويكون سعيداً؟ الجواب: نعم، فقد يكتب في بطن أمه شقياً، ولكن في اللوح المحفوظ يكون الله قدر أنه سيختم له بالصالحات فيكون سعيداً، فالذي يغير هو ما في يد الملك فقط، والدليل على ذلك.
حديث (الدعاء والقدر يعتلجان)، يعني: يتعارضان؛ وأيضاً كلام عمر بن الخطاب بسند صحيح أنه طاف حول الكعبة فكان يبكي ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني شقياً -يعني: في بطن أمه- فامحها واكتبني عندك سعيداً.
فهو طلب تغيير ما كتب عليه في بطن أمه فقط؛ لأن اللوح المحفوظ لا يتغير أبداً، والدليل على أن عمر يريد ذلك نهاية قوله، إذ قال في نهايته: فاكتبني عندك سعيداً، ثم يقرأ قول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩].
والمعنى: يمحو الله ما يشاء مما في يد الملك، وعنده {أُمُّ الْكِتَابِ}، يعني: اللوح المحفوظ فإنه لا يتبدل ولا يتغير، فالآية هنا ظاهرة جداً في أن الذي يمحي هو ما في يد الملائكة.
وكذلك لو أن رجلاً سرق وستقطع يده، فإذا كان ذلك مكتوباً في اللوح المحفوظ فلن يتغير ذلك، وأما إذا كتب في يد الملائكة فقط بأنه سارق، فإنه سيمحى من كتاب الملائكة إن قدر الله ذلك.
فإذاً الكتابات أربع: كتابة في اللوح المحفوظ وهذه لا تتبدل ولا تتغير، وكتابة عمرية، وكتابة سنوية، وكتابة يومية، والتغيير والتبديل يكون في هذه الكتابات لا في اللوح المحفوظ.