وقد تعامل أهل السنة والجماعة مع أهل البدع بالهجران والتحذير منهم، وهذا على الإجمال، أما التفصيل فيها فهو أن نقول: إن الأصل الذي أصله السلف: هو هجران أهل البدع حتى يرجعوا عنها ويلتفوا حول أهل السنة والجماعة، وحول علمهم الواسع، فإن كان هذا الهجران سيأتي بمفسدة أكبر، كاستمراره على بدعته أو نحوه فلا هجران حينئذ، بل يسلم عليه وينصح ويدعى له لعل الله جل في علاه أن يهديه، فلا يعدل إلى الهجران إلا إذا علم منه أنه سيرجع عن بدعته وإلا فلا؛ لأن العلة في هجران السلف الصالح لأهل البدع هي: رجاء رجوع أهل البدع عن بدعتهم، فعليك أن تنصحهم أو تناظرهم إن كنت مجتهداً؛ حتى ترجع بهم إلى الطريق القويم طريق الله جل في علاه، كما فعل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه عندما خرج الخوارج على علي بن أبي طالب وأرادوا قتله، فقال علي بن أبي طالب: اذهب يا ابن عباس! ولا تناظرهم بالقرآن، فإن القرآن حمال، أي: أن له وجوهاً كثيرةً، فيمكن لهم أن يستدلوا ببعض متشابهه مما يقوون به بدعتهم، قال: ولكن ناظرهم بالسنة، فلما ناظرهم بالسنة وبين بدعهم المميتة التي كانوا عليها رجع أكثر هؤلاء الخوارج واصطفوا بجانب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ولم يبق إلا من ختم الله على قلبه.
إذاً: الشرط في مناظرة أهل البدع: هو إتقان المسألة التي تناظر فيها، وأشهر من شهر سيف السنة أمام وجه البدعة: هو شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد شهر سيف السنة على وجوه المبتدعة وقمعهم بفضل الله عليه؛ لأنه كان يناصر الحق، وأشهر المناصرين للسنة من السلف: هو الشافعي؛ لأن الشافعي لقب بناصر السنة، فقد كان أحمد بن حنبل يشير إليه ويقول: هذا هو ناصر السنة؛ لأنه كان يتصدى لأهل الرأي والقياس، ويعارضهم بالسنن، ولذلك كان يقول: القياس وإن كان حجة لكن في مضايق الأمور، يعني: لا تتسع مسألة القياس عنده.
والغرض المقصود: أنهم رفعوا راية السنة وحاربوا من أجلها، أما طالب العلم المبتدئ أو المقلد فإنه لا يجوز له أن يقف أمام مبتدع ويناقشه؛ لأنا رأينا -واقعاً مشاهداً- كثيراً من المنتسبين للعلم غرر بهم وسقطوا في أوحال البدع لأنهم غير أقوياء وغير راسخين في العلم، والله المستعان.
أما في هذا الزمان فلا بد لطالب العلم المتقن أن يتصدى لشمس البدعة التي بزغت، وأن يطفئ نارها، بل وأن يفرق بين السنة والبدعة، فقد كان ابن سيرين يقول: يا بني! إذا اجتمعت مع مبتدع في مسجد فاصنع مثلي، فيضع إصبعه في أذنيه حتى لا يسمع من أهل البدعة كلمة يأثم بها، وكان كثير من السلف -منهم أحمد بن حنبل - إذا سار في الطريق فوجد فيه من يسير من المبتدعة أخذ الطريق الآخر ولم يقابله؛ ولذلك سألوا الشافعي عن أهل الكلام فقال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وقد جاء أن عمر بن الخطاب -وما أدراك ما عمر! الذي إذا سلك فجاً سلك الشيطان فجاً آخر فكيف بالمبتدع؟! - فقد جاء أنه بعث إليه أبو موسى الأشعري فقال: يا أمير المؤمنين! إن عندنا رجلاً يتكلم في القدر ولأن عمر يعلم أنه مسئول عن كل شيء سواء كان صغيراً أو كبيراً دقيقاً أو جليلاً، وكان يقول: لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها، فلما وصلته هذه الرسالة اشتد غضبه وبعث إلى أبي موسى يقول: إن وصلتك رسالتي فليأتني الرجل في الحين واللحظة، فلما وصلت الرسالة بعث إليه أبو موسى بهذا الرجل، فلما جاءه الرجل قام عمر بن الخطاب إليه بالعصا وأخذ يضربه على رأسه حتى سالت الدماء على وجهه وجسده حتى قال: والله انتهيت! والله انتهيت! فقال له عمر: هل تجد في رأسك ما كنت تجد؟ فقال: لا أجد شيئاً.
وهذا الذي لا بد أن يحدث مع أهل البدع إن كان لك سلطة عليهم، فعلى الإنسان أولاً: أن ينظر لهذه البدع بعين الشرع، فيتبرأ من فعلهم، ويبغضهم على هذه الفعلة الشنيعة، ويناظرهم ويناصحهم إن كان طالب علم متقناً، وينظر إليهم بالعين الأخرى: وهي عين القدر، فيحمد الله أنه لم يكن على طريقتهم، ويحمد الله جل في علاه أن ثبته على السنة، ويدعو لهم لعل الله أن يهديهم إلى سنة سيد المرسلين.