للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات صفة العلو]

إنَّ الاستواء يتعلق بالعلو؛ لأن العلو علوان: علو مطلق، وعلو مقيد.

فالعلو المقيد: هو الاستواء على العرش؛ لأنه مقيد بالعرش، أما العلو المطلق: فهو علو الذات، وعلو الشأن، وعلو القهر، فإن الله جل وعلا له صفة ذات وهي العلو، فالله جل وعلا علوه علو شأن أي: علو عظمة وبهاء وكمال وقوة وقدرة وعزة، وعلو قهر أي: هو القاهر فوق عباده، كل الخلق مقهورون ومربوبون لله جل في علاه، كما قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:٩٣ - ٩٤]، فهذا خضوع في النهاية، وأيضاً خضوع الربوبية في كل العباد، وكذلك كل العباد لا يستطيعون رد قضاء الله وقدره جل في علاه، فإنه لو أمرض الكافر، أو أراد موت الكافر، نفذ أمره جل في علاه، وهذا من باب علو القهر على عباده جل في علاه.

إذاً: الله جل في علاه له علو الذات، وعلو الشأن، وعلو القهر.

إن علو الله له أدلة كثيرة منها: التصريح بالفوقية، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨].

وكذا التصريح بالعندية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش) وهذا دل على العلو.

والنزول أيضاً يدل على العلو، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا ثلث الليل الآخر) وهذا فيه دلالة على العلو؛ لأن النزول لا يكون إلا من علو.

وأيضاً: العروج والصعود يدلان على العلو؛ لأن الصعود لا يكون إلا إلى أعلى، قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:٤] وفي الآية الأخرى: {أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:٥] وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله ملائكة تكتب أعمال العباد يتقابلون في الفجر وفي العصر ويصعدون إلى الله بأعمال العباد) وأيضاً في الصحيحين: أن مجالس العلم تحفها الملائكة، فيصعدون بأسماء هؤلاء فيقال: هذا الرجل جاء لحاجة فيقول الله: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، والغرض المقصود: أنَّ يعرجون معناها: يصعدون، والصعود يكون إلى أعلى.

أيضاً من دلالات العلو: الإشارة إلى أعلى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب فيهم خطبة الوداع قال: (اللهم هل بلغت؟) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه إلى أعلى ويقول: (اللهم فاشهد) أي يقول: اللهم إنك أنت في السماء فاشهد على من يقول في الأرض هذا الكلام، فيشير بإصبعه ويقول: اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، وينكسها عليهم.

أيضاً حديث معاوية في مسلم: (أنه صفع الجارية بعدما أكل الذئب إحدى غنمها -صفعها على وجهها-، فقال: يا رسول الله! أعتقها؟ فقال له: ائتني بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) ووجه الدلالة من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) والفاء هنا تدل على العلية، ففي هذا الحديث استدل النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان هذه الجارية -وعمرها نحو تسع سنوات- بقولها: (الله في السماء) ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط إيمانها بهذا الاعتقاد الصحيح، كأنه يقول لها: قد اعتقدت اعتقاداً صحيحاً دل ذلك على إيمانك، اعتقدت أن ربك في السماء فدل ذلك على إيمانك.

وأيضاً قال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:١٦]، وقوله تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:١٧] فقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] فيه دلالة واضحة على أن الله في السماء.

فإذا سأل سائل: هل (في السماء) معناها: أن السماء تظله وتقله؟

الجواب

لا وحاشا لله، فإن الله أحاط بكل شيء ولا شيء يحيط به جل في علاه، فمعنى: في السماء على السماء.

ولكن بعض أهل اللغة يرفضون أن الحروف يستعير بعضها من بعض المعنى، والصحيح الراجح: أنه ينتقل المعنى، فقد تكون في بمعنى: على، وعلى تكون بمعنى: في، وهذا واقع مشاهد حتى في كتاب الله، فقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أي: أأمنتم من على السماء، ففي هنا بمعنى: على، والدلالة على ذلك قول الله تعالى عندما بين منته على عباده أنه جعل لهم الأرض ذلولاً، فقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] فليس هناك أحد حفر في الأرض ومشى فيها، فقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] يعني: امشوا على مناكبها.

وأيضاً عندما قال فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] ما ورد تاريخياً أنه أخذ المنشار ثم أدخلهم داخل النخل، لكن هو صلبهم على النخل، وهذا فيه دلالة على أن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] يعني: على السماء، وكثير من نسائنا تأخذ الطفل فتقول له: ربك أين؟ فيقول: ربي في السماء، فلا تعلمه أنَّ (في السماء) معناها: ربي على السماء؛ لأن ذلك معتاد عليه، فتقول له: قل: ربي فوق العرش، أو فوق السماء، أو ربي على العرش، أو على السماء.

إنَّ هذه الصفة صفة العلو لا بد للإنسان أن يعتقدها اعتقاداً جازماً، ويعلم أن ربه جل في علاه له علو العظمة والبهاء والقدرة والعزة والجبروت، فهو إن اعتقد ذلك فلن يخشى أحداً في الله، ولن يخشى لومة لائم في الله جل في علاه، ولن يخشى أحداً في هذه الدنيا إلا ربه جل في علاه؛ لأن الله قهر عباده، فهو له علو القهر، وأنه مهما اجتمع عليه القوم فلن يضروه بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وإذا اعتقد أيضاً علو الله جل في علاه على عرشه فإن همته ستعلو؛ لأن الله يكره خفيف الهمة، ويحب عالي الهمة، ومعلوم دائماً أنَّ معالي الأمور ترفع صاحبها عند الله جل في علاه، أما الرجل الذي يقول: أنا فقط أريد أن أكون كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ} [آل عمران:١٨٥] فهذا من الممكن أن ينزل فيها؛ لأنه إذا قال: فقط أريد: {فَمَنْ زُحْزِحَ} [آل عمران:١٨٥] فيعمل على الزحزحة، فإنه لن يصل إلى الزحزحة، فلابد دائماً أنك إذا أردت الخير أن تعلو ببصرك حتى تنال ما تريد، والمثل يقول: إذا أردت أن تصل للمئذنة فانظر إلى السماء حتى تصل إلى المئذنة فقط.

فالصحيح: أنك إذا علمت بأن الله جل وعلا من صفاته: صفة العلو علت همتك وقلت: لم لا أكون صديقاً؟ فتدعو الله أن تكون صديقاً، ولكن لا يجوز التعدي في الدعاء، فلا يصح للإنسان أن يقول: يا رب اجعلني نبياً؟ وقد نهى الله عن التعدي في الدعاء؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، وليس هناك نبي بعده، فأنت حين تطلب النبوة كأنك تعارض بدعائك القدر الذي قد كتبه الله أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن هذا تعدٍّ في الدعاء قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:٥٥] فالتعدي: أن تتعدى في أمر قدراً أو شرعاً؛ لأن التعدي تعدي قدري أو شرعي.

فالتعدي قدراً: أن تدعو بأمر قد نفذ قدراً وهو أن تقول: اللهم اجعلني نبياً، وهذا قد ختم في اللوح المحفوظ أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والتعدي الشرعي: أن تدعو مثلاً بقطيعة رحم أو إثم، وهذا اسمه تعدٍّ شرعي، فالذي لا يستجاب دعاؤه الذي يتعدى قدراً وليس الذي يتعدى شرعاً.

والمهم أنَّ الغرض المقصود: أنه إذا علت همتك دون التعدي فإن الله يحب منك ذلك، لم لا تدعو أن تكون صديقاً؟ لم لا تدعو أن تكون في مصاف أبي بكر وعمر وعثمان؟ لم لا تدعو أن تكون أعلم أهل الأرض؟ لم لا تدعو أن تكون أفضل أهل الأرض عند الله جل في علاه؟ ادع بذلك، فإنك إذا علمت أن العلو صفة من صفات ربك فليكن في قلبك صفة العلو.

<<  <  ج: ص:  >  >>