ننتقل للكلام عن الإجماع وحكمه: فنقول: الإجماع لغة: العقد والاتفاق.
واصطلاحاً: اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد على حكم شرعي بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو حجة لا نزاع في ذلك، كما قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء:٥٩]، ووجه الدلالة في الآية مأخوذ من مفهوم المخالفة لها: وهو أنكم تأخذون باجتماعكم عند الاجتماع ولا تردوه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة).
وأيضاً: قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:١١٥]، ففيها دلالة أيضاً على حجية الإجماع.
ومع ذلك فإن الإجماع عزيز جداً، فقليلة هي المسائل التي يكون فيها الإجماع؛ ولذلك فالعلماء يحذرون من إجماعات النووي؛ لأن النووي لا يقصد الإجماع بمفهومه الشامل بل يقصد اتفاق الشافعية فيعتذر له بذلك.
كذلك أيضاً: إجماعات ابن عبد البر وابن المنذر، ففيها الخلط الكثير كما قال العلماء، لكنهم اجتهدوا ولهم الأجر عند الله ويشكرون على ذلك؛ ولذلك استقى الإمام أحمد من الشافعي قوله: وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا.
لذلك فإن الشافعي يقول: إن الإجماع هو إجماع الصحابة؛ لأن من العزيز حصر من بعدهم، فلا يمكن أن تصل إلى إجماع التابعين ومن بعدهم؛ ولذلك كان أحمد بن حنبل بعدها إذا قيل: المسألة إجماع، قال: وما يدريك لعل الناس قد اختلفوا! لأن العلماء مشتتون في جميع الأمصار، فليس من الممكن جمع أقوالهم من المشرق ومن المغرب، لكنه أصبح من الممكن حصر أقوال العلماء المعتبرين في هذا العصر عن طريق النت أو التلفون، أو أنهم يجتمعون في مؤتمر معين على مسألة معينة فعند ذلك يسمى إجماعاً ولا يجوز لنا مخالفته، فلو أجمع العلماء الثلاثة مثلاً ابن باز وابن عثيمين والألباني على مسألة معينة فلا يجوز مخالفتها والله أعلم؛ لأن هؤلاء هم أعلم أهل الأرض الآن بفضل الله سبحانه وتعالى؛ ولأن الأمة بأسرها قد شهدت لهؤلاء الثلاثة بأنهم أتقن العلماء في هذا العصر.
وقد كان الألباني أيضاً يعمل بكلام أحمد بن حنبل في عزة الإجماع وندرته عندما قال بحرمة الذهب المحلق، فلا يجوز للمرأة لبس الأسورة أو السلسلة عنده، وقد عارضه العلماء المعاصرون وقالوا: إن في المسألة إجماعاً من الفقهاء الأولين على عدم حرمته، فقال الإمام الألباني متمثلاً بقول أحمد: وما يدريكم لعل الناس قد اختلفوا فلم تطلعوا على اختلافهم، ثم قال: وكيف يجمعون على مسألة قد قال بها أبو هريرة، وقال بها كذا وكذا من الصحابة، ولسنا هنا بصدد الترجيح، فالراجح الحق: هو أن الذهب المحلق حلال، لكنه اعترض على من اعترض عليه بأن الإجماع عزيز.