[عقيدة أهل السنة فيمن ارتكب كبيرة وردهم على أدلة الخوارج والمعتزلة]
وأهل العقيدة السديدة يعتقدون بأنه لا يمكن أن يكفر أحد من المسلمين قال: لا إله إلا الله، مهما فعل من الذنوب، ولا يكفره إلا جاهل جريء.
أما الرد على أدلة الخوارج والمعتزلة، فهو ما يلي: أولاً: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فكل ما كان دون الشرك فهو تحت مشيئة الله، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الكافر مآله إلى النار خالداً مخلداً فيها.
وهنالك قاعدة وهي: كل كفر ذكر نكرة في حديث أو في آية يحمل على الكفر الأصغر، وكل شرك ذكر منكراً في حديث أو آية فلا بد أن يحمل على الشرك الأصغر، إلا ما كان معرفاً.
والقاعدة هذه لها أدلة كثيرة جداً والشرح طويل.
ثانياً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ.
فالتفريق الشرعي والتأصيل العلمي الذي أصله الله لنا في التفريق بين درجة الإسلام ودرجة الإيمان، من قول الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسلَمنَا} [الحجرات:١٤]، فيحتمل معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أنه ليس بمؤمن لكنه مسلم لم يخرج من دائرة الإسلام، والدليل على ذلك حديث سعد بن أبي وقاص عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لم لم تعط فلاناً؟ والله ما أراه إلا مؤمناً، قال: أو مسلم) ففرق بين المؤمن وبين المسلم.
إذاً: الرد على استدلالهم بحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ أن من عمل هذه الأعمال فهو ليس بمؤمن؛ لأن المؤمن له رقي ومرتبة عليا عند الله جل في علاه، بل هو قد نزل من درجة الإيمان إلى درجة الإسلام؛ ولذلك قال ابن عباس (الذي يزني أو يشرب الخمر يكون الإيمان فوقه كالظلة، فإن تاب نزل الإيمان إلى قلبه مرة ثانية، وإن لم يتب صعد عنه الإيمان وبقي على الإسلام) يعني: أن معه أصل الإيمان لا الإيمان المطلق.
إذاً: الزاني لا يدخل في دائرة الإيمان المطلق لكنه ينزل إلى مطلق الإيمان، والفرق بينهما: أن مطلق الإيمان هو أصل الإيمان، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل.
إذاً: الرد عليهم أن المسلم حين يزني ليس مؤمناً إيماناً مطلقاً، لكن معه أصل الإيمان.
ثالثاً: حديث أبي ذر السابق قال فيه: (يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) يعني: أنه من أهل الجنة، فإذا قلنا باستدلالهم بحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فيكون مآله إلى النار خالداً مخلداً فيها.
ويرد عليهم بأن رسول الله بشر من قبل جبريل، وجبريل بشر من قبل الله جل في علاه علام الغيوب بأن الزاني والسارق إن ماتا على ذلك فهما في مشيئة الله جل في علاه ومآلهما إلى الجنة.
رابعاً: حديث عبادة رضي الله عنه قال: (بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نزني، ولا نسرق، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أتى من هذه القاذورات شيئاً فأقيم عليه الحد فهو كفارة له، وإن لم يقم عليه الحد فهو تحت مشيئة الله) فجعله في المشيئة دليل على أنه من أهل الإيمان.
خامساً: قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، أن الكفر ذكر نكرة فيدل على أنه كفر دون الكفر الأكبر.
ومنه قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:٩].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ووجه الدلالة: أن الكفر المذكور في هذا الحديث ليس هو الكفر الذي يخرج من الملة؛ لأن الله تعالى لم ينف الإيمان عن الطائفتين المتقاتلتين بل سماهما به، وشهد لهما بالإيمان مع أنهما تقتتلان، ويوجد في إحداهما بغي وظلم.
وأيضاً: حديث الحسن قال عليه الصلاة والسلام: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين) وعلي ومعاوية وهما من الإيمان والإسلام بمكان، ولا يمكن أن يسمى مسلماً من انخلع عن دائرة الإسلام.
وكذلك قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:١٧٨] وجه الدلالة من هذه الآية هو قوله تعالى: ((مِنْ أَخِيهِ))، فإن الله تعالى أثبت لهم الأخوة في الدين ولا يمكن أن تكون أخوة بين مؤمن وكافر بحال من الأحوال، إلا إذا كانت أخوة النسب، أما أخوة الإنسانية فلا تجوز بحال من الأحوال أن تكون بين المؤمن والكافر، فهي ملغية؛ لأن الله جل في علاه قال عن الكفار: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:٤٤].
سادساً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) وقوله: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين) فالمعتزلة والخوارج يقولون: إن الذي يغش في البيع فهو كافر، لكنه عند أهل السنة والجماعة مسلم عاص، أو مؤمن ناقص الإيمان، فهو مؤمن بتوحيده، عاص أو فاسق بمعصيته.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المسلمين) فالبراءة براءتان: براءة من الشخص، وبراءة من العمل، والبراءة من العمل لا تخرج صاحبها من الملة، أما البراءة من الشخص فكقول الله تعالى: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:٤] فهنا البراءة منهم لأنهم أشركوا بالله، وبين الله أن إبراهيم قد تبرأ أيضاً من أبيه عندما رأى أنه عدو لله جل في علاه، فهنا براءة من الشخص نفسه لكفره.
والبراءة من العمل فقط كالرجل المؤمن الذي عمل عملاً خالف فيه الشرع فيتبرأ من هذا العمل، مثل قول الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:٢١٦] ويوضح هذه الآية ويفسرها حديث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن خالداً قتل مجموعة من المشركين عندما قالوا: صبأنا صبأنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد) فـ خالد سيف من سيوف الله، فهذا التبرؤ ليس تبرؤاً بالكلية، بل هو تبرؤ من فعل؛ لأن هذا الفعل خرج عن دائرة طاعة الله جل في علاه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا ليس منا) يعني: ليس على هدينا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل السوق فرأى صبرة طعام فأدخل يده فيها فوجد بللاً فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: هلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا) وهذا دليل واضح جداً على أن هذا العمل ليس بكفر، ووجه الدلالة أنه لو كان كفراً لقال له صلى الله عليه وسلم: قد كفرت، فقل: لا إله إلا الله وارجع إلى دينك واغتسل، كما أمر بعض الكفار الذين أسلموا، أو لقال له: هذه ردة يا صاحب الطعام، وقد تخلد في نار جهنم بهذه الردة.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا): ليس على هدينا، وليس على ما يرضي الله ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر: النياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم) فالنياحة على الميت ليست بكفر، فالمرأة التي تلطم الخدود وتشق الجيوب ليست كافرة، وهذا كفر دون كفر.
فهذه المسألة شائكة، وقد وسعت الكلام فيها جداً في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بالتقعيدات والتأصيلات التي لا أقصر في أن أبينها لكم فقط؛ لأن طالب العلم الجيد هو الذي يؤصل علمياً ويسير بعد ذلك على غرار هذا التأصيل، فهذا آخر ما نتكلم عنه في هذه المسألة الشائكة، حتى أجلي لكم كيف أن أهل السنة والجماعة يخالفون أهل البدع الذين يتمسكون بطرف من أطراف الحديث.
وأهل السنة والجماعة لا يستخلصون إلى المسألة إلا إذا أحاطوا بكل الروايات التي تبين لنا منهجهم، وهو أنهم لا يكفرون أحداً بأي معصية إلا إذا استحلها.
والإصرار وحده لا يدل على الاستحلال بالقلب، بل لا بد من النطق باللسان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم أؤمر أن أشق عن قلوب الناس).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.