وهذا الحساب الثابت في الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة له أمور عديدة: الأمر الأول: كيفية محاسبة الله تعالى للخلق؛ فأقول: إن محاسبة الخلق أجمعين تكون كمحاسبة الرجل الواحد، وقد اندهش الصحابة لذلك وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فبين لهم وقال:(إنكم كما تسمعون صوته كرجل فسيحاسبكم كرجل واحد)، وهذا لا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فصله بقوله:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فيذكره ويقول: عبدي! تذكر ذنب كذا يوم كذا، تذكر فعل كذا يوم كذا) والعبد يقر ولا يستطيع أن يرد على الله جل في علاه ولا أن يكذب؛ لأن الله جل في علاه يختم على الفم فتنطق الأيدي والأرجل بما كسبت، قال:(فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يجد إلا ما قدم، وينظر بين عينيه فلا يرى إلا النار، فيظن أنه قد هلك، فيأتي الله جل في علاه للمؤمن الذي زل فيقول: عبدي! أنا قد سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو ويقول:(اللهم حاسبني حساباً يسيراً) فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحساب اليسير قال: (ينظر الله جل في علاه في الكتاب فيتجاوز عنك)، فيغفر لك الله جل وعلا هذه الزلات كما سترها عليك في الدنيا، اللهم استر علينا في الدنيا، واغفر لنا في الآخرة.
إذاً: فالحساب حسابان: حساب يسير وحساب عسير، أما الحساب اليسير: فهو على المؤمنين بأن ينظر الله جل في علاه في كتب المؤمنين ثم يغفر لهم زلاتهم.
أما لحساب العسير والعياذ بالله: فهي المناقشة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (من نوقش الحساب عذب)، فالمناقشة: أن يناقشه الله جل في علاه على كل نعمة أنعمها عليه، كنعمة العين ونعمة اليد واللسان والبدن والمال والأهل والولد، فيحاسبه الله على كل نعمة حساباً دقيقاً، ويحاسبه أيضاً على أوقاته وأعماله وعلى كل شيء فعله في هذه الدنيا، فتخبره الأيدي والأرجل، وتطيش الصحائف، فكل إنسان ألزمه الله طائره في عنقه فهو رقيب وحسيب على نفسه، فإذا ناقشه الله الحساب علم يقيناً أنه من أهل النار، نعوذ بالله من ذلك.
أما الأمر الثالث الذي يتعلق بمسألة الحساب: فهو أن أول من يحاسب من الأمم هي هذه الأمة العظيمة التي شرفها الله جل في علاه؛ قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:١١٠] وهذه الخيرية عامة في الدنيا والآخرة، أما الخيرية في الدنيا: فالقيادة والريادة والسيادة إن تمسكت بهذا الدين، وأما الخيرية في الآخرة: فهي أول الأمم قضاءً بينهم، وهي أول من يحاسب تشريفاً وتعظيماً وتكريماً لهذه الأمة كما كرم الله وشرف وعظم نبيها بالمقام المحمود، وقد بينا أن لهذه الأمة ثلاث أولويات: أولها: أنها أول أمة تحاسب، كما بينا.
ثانيها: أنها أول أمة تعبر الصراط، وما من نبي إلا ويقول عندها: اللهم سلم سلم.
الثالثة: أنها أول أمة تدخل الجنة؛ تشريفاً وتعظيماً وتكريماً من الله جل وعلا لهذه الأمة، فهي أول من يحاسب، وأول من يمر على الصراط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(أنا وأمتي أول من يمر على الصراط)، وأول من يدخل الجنة.
وأول حساب يحاسبه المرء: هو القضاء في الحقوق، والحقوق قسمات: حقوق لله وحقوق للعباد، أما حقوق الله: فالصلاة، وهي أول هذه الحقوق بعد التوحيد؛ لأننا نتكلم عن المسلمين، وهي أول ما يحاسب عليه المرء كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:(إذا صلحت صلحت سائر الأعمال، إذا فسدت فسدت سائر الأعمال).