للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القدر من أركان الإيمان]

والقدر ركن من أركان الإيمان، والذي لا يؤمن بالقدر فقد كفر وخرج من الملة؛ وهذا هو ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح مسلم أنه جاء رجلان من أهل الكوفة إلى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكانا يريدان التعلم، فقالا: لو صادفنا أحداً من أصحاب رسول الله كي نتعلم منه، فطافا فوجدا ابن عمر فاكتنفاه رجل عن يمينه ورجل عن يساره فقال: أرأيت من يتكلم في القدر ويقول: إن الأمر أنف، -يعني: انقضى- وكأنهما يريدان أن يقولا لـ ابن عمر: أرأيت أناساً عندنا يدعون العلم، يقولون: الأمر أنف.

فقال الراسخ في العلم ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أبلغهم أني منهم بريء وهم مني برآء، فهنا البراءة الكلية من الكفرة، ثم استدل على تكفيرهم بكفرهم بالقدر فقال: سمعت أبي أي: عمر بن الخطاب وذكر حديث جبريل الطويل.

ومن الدلالة على أن القدر ركن من أركان الإيمان، وأن من لم يؤمن به فقد خرج من الملة ولا يستقيم إيمانه إلا بذلك، حديث الصحابي الجليل في مسلم عندما نصح لابنه فقال له: يا بني! إنه لا يستقيم إيمانك حتى تعلم أنه ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ثم قال: يا بني! -وهذا وجه الشاهد- إن لم تمت على هذا كنت من أصحاب النار.

فهذه دلالة قوية جداً على أن من لم يمت على هذا الاعتقاد كفر وخرج من الملة، وكان من أصحاب النار خالداً فيها.

والقدر هو قدرة الله جل في علاه، وهو تقديره لخلق الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقد بين الله ذلك جلياً في كتابه وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:٣٨]، وقال جل في علاه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:٤٩]، وقال جل في علاه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:٢٢]، ووجه الشاهد هو قوله: (من قبل أن نبرأها).

وقال الله جل في علاه: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:٥٢ - ٥٣]، يعني: مكتوب في اللوح المحفوظ، وكل هذه أدلة على أن الله جل وعلا كتب كل شيء قبل أن يخلق الخلق، ويدل على أن ذلك كان قبل خلق الخلائق بخمسين ألف سنة الحديث الذي سيأتي تفسيره في احتجاج آدم وموسى، حيث قال موسى: (أنت آدم خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه أكلت من الشجرة وأخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال آدم عليه السلام: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وبرسالته فقال: نعم.

فقال: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أو قال: أترى أن الله قد كتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فقال النبي: حينها حج آدم موسى)، ولذلك قال الله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:١٢]، والإمام المبين: هو الكتابة في اللوح المحفوظ.

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:١٠٥]، والزبور: هو الذي أنزل على داود عليه السلام، والدليل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:١٦٣] إذاً: فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:١٠٥] يعني: كتب في الذكر -وهو اللوح المحفوظ- كل شيء من الشقاء، أو السعادة، وأهل الجنة والنار، حتى ابتسامتك ونومك وزواجك، ورزقك، فكل ذلك قد كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، ودليل ذلك ما في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (خرج على الناس بكتابين فقال: هذا كتاب وهذا كتاب، هذا كتاب أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم.

وختم على ذلك -يعني: لا يزاد فيه ولا ينقص- ثم قال للذي في شماله: وهذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم قال: ختم على ذلك -يعني: لا يزاد فيه ولا ينقص- ثم قال: فرغ ربكم من العباد).

يعني: كتب أهل الجنة بعملهم وأهل النار بأعمالهم، وهذه الكتابة لا تجعل المرء يتقاعس عن العمل بل تزيده همة في العمل كما سنبين.

<<  <  ج: ص:  >  >>