للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من مراتب القدر العلم]

فالمرتبة الأولى هي: أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله علم كل شيء صغيراً أو كبيراً سراً أو علناً، كلاماً أو صمتاً.

قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:١٢]، وقال الله تعالى: {لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠]، فالله يحيط بكل شيء علماً سبحانه وتعالى، وأيضاً قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:١٠٧]، وقال جل في علاه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:٥٩]، يعني: يعلمها الله جل في علاه وكتبها، وقد ختم الله الكثير من الآيات بتسمية نفسه (العليم الحكيم) قال تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:٤ - ٥]، ثم قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:٦]، فذكر العلم وذكر معه الحكمة، فالله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فكل ما كان يعلمه الله جل في علاه قبل أن يقع، وقد كتبه في اللوح المحفوظ عن علمه جل في علاه، ويعلم ما حدث بين آدم وإبليس وما حدث بين آدم وحواء، وما حدث بين محمد وأصحابه، ويعلم الله أيضاً ما يكون -كما سنبين في أشراط الساعة- في زمننا هذا من نطق الرويبضة، وأيضاً نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وظهور المسيح الدجال والدابة وغيرها.

جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبضة، قالوا: يا رسول الله! وما الرويبضة؟ قال: الفاسق، أو قال -يقلل من شأنه-: الفويسق يتكلم في أمر العامة)، وما أكثر الرويبضات في هذه العصور.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أننا سنموت ثم نحشر حفاة عراة غرلاً، وأن الله جل وعلا يحشرنا على أرض غير هذه الأرض {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:٤٨]، فكل ذلك أخبرنا الله به وسيقع.

وكذلك فإن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فالشيء الذي ليس موجوداً بحال من الأحوال لو وجد فإن كيفيته يعلمها الله ونحن لا نعلم، ويدخل في هذا الممكن والمستحيل، فمن الممكن مثلاً أن الصف المنافق لو خرج مع الصف المؤمن فإنه سينشر في الصف المؤمن الخبال والفتن، وقد قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ} [التوبة:٤٧]، فالمنافقون لم يخرجوا، ولكن لو خرجوا فإن الله يعلم ماذا سيحدث، فهو يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.

أيضاً أهل الكفر يقول الله عنهم: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٢ - ٢٣]، ولم يحدث أن الله أسمع الكافرين، ولكن لو أسمعهم كيف سيكون الحال؟ قال: {لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:٢٣]، وهذا في الدنيا.

وكذلك في الآخرة ذكر الله ما هو أعظم من ذلك، وهو أهل النار، فهم عندما يقفون على النار وينظرون إلى حق اليقين وعين اليقين يقولون {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:٢٧]، فهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا، ولكن لو ردوا إلى الدنيا فماذا سيكون حالهم؟ هل سيؤمنون على زعمهم؟ إذ قالوا: (نؤمن ولا نكذب بآيات ربنا) الجواب يأتي من الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٨]، فهذا بيان من الله جل في علاه لما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهذا بالنسبة للشيء الممكن والمتاح.

أما الشيء المستحيل، فيقول الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢]، وهذا مستحيل أن يكون فليس للكون رب سوى الله جل في علاه، فلو قال أحد بأن للكون ربين أو إلهين لقلنا له: كذبت وخسئت، فإن هذا من المستحيل.

ولكن بين لنا الله جل في علاه أن ذلك لو كان فإن الدنيا كلها ستكون خراباً، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:٢٢] فسيذهب كل إله بما خلق وسيعلو بعضهم على بعض، فصاحب الشمس يتمسك بشمسه وصاحب القمر كذلك، وصاحب الأنهار يتمسك بأنهاره، فتفسد الأرض ولا تكون ثمة حياة في هذه الدنيا.

<<  <  ج: ص:  >  >>