ولا تحتاج هذه الأقوال إلى كثير عناء في إبطالها وردها؛ إذ إن هذه البواعث المذكورة كثيراً ما تكون غير موجودة، ومع ذلك يكون التدين ظاهراً واضحاً يصدم دعاة الإلحاد ويهدم تخرصاتهم. ولا يعدو ما ذكر هنا من باعث التدين أن يكون تخرصا وفرضاً باطلاً؛ إذ إن الحديث عن باعث التدين يحتاج إلى سبر أغوار النفس البشرية، ودراسة تاريخية متعمقة، تشمل الإنسان الأول، وتسير معه سيراً متأنياً، كاشفة عن مشاعره وأحاسيسه وتقلباتها حسب الظروف والأحوال التي تحيط به؛ إذ إن الدين له أوقات يظهر بها ويتضح جليًّا في حياة الإنسان، وهي أوقات الأزمات والمخاوف التي يقع فيها الإنسان، كما أن له أوقاتاً يكمن فيها ولا يظهر، وهي أوقات الرخاء والغنى، إذ يقع الإنسان فيها فريسة سهلة للغفلة والبعد عن الدين. كما أن الباحث يجب أن يكون في حال بحثه خاليا من المؤثرات البيئية والدينية والثقافية، وذلك من أجل أن يكون حكمه على الظواهر التي يقع عليها سليما من المؤثرات الخارجية، وأنَّى للباحث أن يتخلص من ذلك.
فهذه الأمور تجعل الوصول إلى باعث التدين الحقيقي من الصعوبة والعسر بما لا يتمكن منه الإنسان. ونحن- المسلمين- نعتقد أن الباعث على التدين: هو الفطرة، ونعتمد في ذلك على الوحي الإلهي والنور الرباني، فإن القرآن والسنة نصَّا على أن الإنسان مفطور على الإقرار بالخالق والعبودية له والبراءة من الشرك، يدل على ذلك قول الله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: ٣٠].