للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: ١٧٢ - ١٧٣]. فهذه الآية تشهد للآية قبلها، وتبين أن الله جعل ذلك في فطر بني آدم، وأنه أخرجهم من أصلاب آبائهم وأخذ عليهم بذلك العهد والميثاق، فقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك)) (١).وأخرج الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا قال: ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان - يعني عرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذرِّ، ثم كلمهم قبلا قال: أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: ١٧٢])) (٢).ومن الأدلة الدالة على أن الإنسان مفطور على الدين الحق حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء)) (٣).وحديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ... )) الحديث (٤).

فهذه الأدلة صريحة في بيان أن الإنسان مفطور على الإقرار بالخالق، والعبودية له، وهذا هو التدين وذلك باعثه - ومن أصدق من الله حديثا- كما دلت هذه الأدلة أيضاً على أمرين:

أحدهما: أن هذه الفطرة والإقرار بالخالق إلهاً وربًّا، قابلة للتأثر والتغير والانحراف بفعل مؤثرات خارجية، ولذلك نعتقد بأن السبب في وجود الوثنيات السابقة في الأمم البائدة، واللاحقة في الأمم القديمة والحاضرة، هو هذه المؤثرات التي وردت في هذه النصوص.

ثانيهما: أن المؤثرات التي تؤدي إلى انحراف الفطرة عن وجهتها الصحيحة على ضوء هذه الأدلة ثلاثة وهي:

١ - الشياطين: وهي المؤثر الخارجي الأصلي والأول في هذا الأمر، كما دل على ذلك حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه المتقدم.


(١) رواه البخاري (٣٣٣٤) , ومسلم (٢٨٠٥).
(٢) رواه أحمد (١/ ٢٧٢) (٢٤٥٥) , والنسائي في ((الكبرى)) (٦/ ٣٤٧) (١١١٩١) , والحاكم (٢/ ٥٩٣) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٧/ ١٨٩): رجاله رجال الصحيح, وقال ابن كثير في ((البداية والنهاية)) (١/ ٨٣): إسناده جيد قوي على شرط مسلم, وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (٢/ ٣٧٠): إسناده لا مطعن فيه, وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (١٧٠١).
(٣) رواه البخاري (١٣٨٥) , ومسلم (٢٦٥٨).
(٤) رواه مسلم (٢٨٦٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>