ويذكر متى أيضاً بأن المسيح قال: (إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء، ولكني أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه ... حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان) (متى ١٧/ ١٠ - ١٣).
وهكذا يرى النصارى أن المبشِّر الممهد للطريق هو يوحنا (إيليا)، والمبشَّر به هو المسيح. والصحيح أن إيليا رمز للنبي القادم، وليس للنبي الممهد لطريقه.
وقبل أن نلج لفهم حقيقة هذه النبوءة نرى لزاما أن ننبه ببعض ما تعرضت له هذه النصوص من تحريف، ففي ملاخي (ملاك العهد)، وهو في الترجمات القديمة: (رسول الختان)، وفي الترجمة الحديثة يقول: (أرسل ملاكي)، وفي القديمة: (أرسل رسولي)، وفي بعض الطبعات: (يأتي السيد) وفي بعضها: (الولي)، وفي أخرى: (إيليا).
وفي نصوص الأناجيل تحريف للاقتباس من ملاخي الذي استعمل ضمير المتكلم (الطريق أمامي)، وفي الأناجيل أصبح الضمير راجعاً على المسيح (يهيئ طريقك قدامك).
كما نرى يد التحريف قد طالت كلام المسيح والمعمدان حين زعم الإنجيليون أن المسيح اعتبر المعمدان هو الممهد لدعوته (هذا هو الذي كتب عنه: ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك) (لوقا ٧/ ٢٦)، وأنه سماه إيليا المنتظر (ولكني أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه ... حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان) (متى ١٧/ ١٢ - ١٣).
ومن التحريف قولهم: إن المعمدان أخبر أن القوي الذي بشر بقدومه بعده هو المسيح (ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي، الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه .. وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلاً إليه فقال: هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم، هذا هو الذي قلت عنه: يأتي بعدي رجل صار قدامي؛ لأنه كان قبلي) (يوحنا ١/ ٢٦ - ٤٠).
ودعوانا التحريف ليس مردها عدم اتفاق هذه النصوص مع المسألة التي نحن بصدد إثباتها، بل مرده أن يوحنا المعمدان أنكر أن يكون هو النبي إيليا الممهد بين يدي السيد القادم، فقد نفى هو ذلك عن نفسه لما جاءه رسل اليهود من الكهنة واللاويين (ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر، وأقر: إني لست أنا المسيح.
فسألوه إذاً ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا) (يوحنا ١/ ١٩ - ٢١)، فهذا نص صريح ينكر فيه يوحنا أنه إيليا الممهد للطريق، كما هو ليس المسيح المنتظر أو النبي القادم.
ويلزم من قول المعمدان تكذيب المسيح في قوله بأن إيليا قد جاء، أو أن يكون المعمدان كاذباً حين أنكر أنه إيليا، أو يلزم القول بأن التلاميذ لم يفهموا كلام المسيح، وهذا الأخير هو الأولى، فقد أخطأ متى حين قال: (حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان)، لقد ظنوا أنهم فهموا، بينما الحقيقة أنهم لم يفهموا، لقد كان يحدثهم عن نفسه، فهو النبي القادم الذي يهيئ الطريق للقادم المنتظر (هأنذا أرسل ملاكي، فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي بغتة إلى هيكله السيدُ الذي تطلبونه، وملاك العهد الذي تسرون به، هو ذا يأتي، قال رب الجنود).
ثم إن صفات إيليا لا تنطبق على المعمدان؛ لأنه يأتي بعد المسيح، فقد قال المسيح عنه: (إيليا المزمع أن يأتي) والمسيح والمعمدان متعاصران.
وعندما يأتي إيليا فإنه (يرد كل شيء)، (فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم)، ومثل هذا لم ينقل عن المعمدان الذي عاش في الصحراء، طعامه الجراد والعسل، ولباسه وبر الإبل، وغاية ما صنعه تعميد من جاءه تائباً. (انظر متى ٣/ ١ - ٥).