ولا يمكن التسليم بأن المعمدان كان تمهيداً للمسيح؛ إذ كيف يقال ذلك، والمعمدان قبيل مقتله - حسب الأناجيل- لا يعرف حقيقة المسيح، ويرسل تلاميذه ليسألوا المسيح (أنت هو الآتي أم ننتظر غيرك؟) (متى ١١/ ٣).
فكيف يقال بأنه أرسل بين يديه، وهو لم يعرف حقيقته؟ ثم ماذا صنع يوحنا بين يدي مقدم المسيح؟ هل صنع شيئاً يتعلق بالمهمة التي تزعمها الأناجيل له؟
لم يرد عنه سوى البشارة بالملكوت كما بشر به المسيح بعده. (انظر متى ٣/ ١) كما كان يعمد الذين يأتونه معترفين بخطاياهم. (انظر متى ٣/ ٦)، وهذا الذي صنعه المسيح أيضاً، وهو ما يؤكد أن دعوتهما واحدة، ألا وهي البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الملكوت، كما قال: (فقال لهم: إنه ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله؛ لأني لهذا قد أرسلت) (لوقا ٤/ ٣٤)، فقد أرسل للبشارة بالملكوت القادم، فهو ممهد ومبشر بين يديه.
والحق أن المعمدان وعيسى صاحبا دعوة واحدة، أي: كلاهما بعث مبشراً بالنبي الخاتم، فهما المبشِّران بالنبي الخاتم، والذي أسماه متَّى بملكوت السماوات، فقد بشر باقتراب عصره النبي يوحنا المعمدان، (جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلاً: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات) (متى ٣/ ١ - ٢).
وبعد وفاة يوحنا المعمدان جدَّد يسوع البشارة بالملكوت، (ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات) (متى ٤/ ١٧)، (وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت) (متى ٤/ ٢٣).
وأمر تلاميذه بأن يبشروا باقتراب الملكوت فقال: (اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات) (متى ١٠/ ٧)، لقد كانت دعوتهما واحدة، وهي البشارة والتمهيد للنبي القادم.
وكما لم يتحقق في المعمدان صفات الممهد للنبي القادم، فإن الصفات التي ذكرها يوحنا المعمدان للآتي بعده لم تتحقق في المسيح، فقد قال المعمدان: (أنا أعمدكم بماء التوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار، الذي رفشه في يده، وسينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ، حينئذٍ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه) (متى ٣/ ١١ - ١٣).
فالقادم المبشَّر به سيعمد بالروح القدس والنار، أما المسيح عليه السلام فلم يعمد أحداً طوال حياته، وإن كان شاع بين الناس أنه يعمد، لكنه لم يفعل ذلك حقيقة، وإن صنعه تلاميذه باسمه (فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يصيّر ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا، مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه) (يوحنا ٤/ ١ - ٢).
وذكر المعمدان أن الآتي بعده يعمد بالروح والنار، أي: يملك سلطان الدين والدنيا؛ لتغيير المنكر والحفز على التوبة، فهو لا يتوقف عن حدود الطهارة الظاهرية للجسد بالاغتسال بالماء، بل يهتم بطهارة الباطن، ووسيلته ما يأتي به روح القدس (جبريل) من وحي وبلاغ وبيان، كما قام بتطهير كثير من الأرض من الوثنية بالنار.
ومثل هذه المعمودية لم يفعلها المسيح الذي عمد تلاميذه بالماء، وكانت بشارته استمراراً لمعمودية المعمدان، وهي البشارة بالتوبة ومغفرة الخطايا، فإن المسيح دعا - بعد حادثة الصلب والقيامة - كل واحد من تلاميذه (أن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا) (لوقا ٢٤/ ٤٧)، فلم تختلف معموديته عليه السلام عن معمودية المعمدان في شيء. (انظر يوحنا ٣/ ٢٢ – ٢٣).