ومهما يكن من شيء فإن المسلمين آنذاك كانوا يعرفون الداء والدواء؛ فالداء يكمن في بعدهم عن دينهم وعقيدتهم, والدواء بالرجوع إلى ذلك, فهم يعرفون سبيل العزة.
ولماَّ كانت تلك الجذوة تتحرك في قلوبهم؛ ولما كانوا يتَّهمون أنفسهم ويلقون باللائمة عليها، كان ذلك بداية طريق العزة.
ومن هنا تعالت صيحات الجهاد، وارتفعت الدعوات مطالبة باستعادة الأراضي، وطرد عُبَّاد الصليب, ولذلك سادت الروح الجهادية في ذلك العصر, ونجد أن الشعراء قد وقفوا شعرهم على شعر الجهاد وتحريك الهمم، كما نجد ذلك في قصيدة أبي المظفر الأبيوردي التي قالها محرضاً على الجهاد بعد استيلاء الصليبيين على بيت المقدس عام (٤٩٢) هـ, يقول:
مزجنا دماء بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراحم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً بني الإسلام إن أمامكم ... وقائعَ يُلْحِقْنَ الذُّرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم في الشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت ومن دُمى ... تواري حياء حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظُّبا ... وسمر العوالي داميات اللهازم
وتلك حروب من يَغِبْ عن غمارها ... ليسلمَ يقرعْ بعدها سن نادم
فليتهم إن لم يذودوا حميةً ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا بالأجر إذ حمي الوغى ... فهلا أتوه رغبة في الغنائم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
ومن ذلك قول ابن المجاور يبكي القدس:
أعيني لا ترقي من العبرات ... صلي في البكا الآصالَ بالبكرات
إلى أن يقول:
لتَبكِ على القدس البلادُ بأسرها ... وتعلن بالأحزان والترحات
لتَبكِ عليها مكة ٌفهي أختها ... وتشكو الذي لاقت إلى عرفات
لتَبكِ على ما حل بالقدس طيبة ... وتشرحه في أكرم الحجرات
وهكذا نجد أن روح الجهاد سرت في ذلك العصر, ثم قيَّض الله -سبحانه وتعالى- رجالاً مؤمنين مخلصين مجاهدين، كأمثال عماد الدين زنكي, ونور الدين محمود، وصلاح الدين - رحمهم الله أجمعين - فاستعاد المسلمون بعد ذلك ما أخذه الصليبيون، واستردوا بيت المقدس, ولا ينسى الصليبيون موقف صلاح الدين منهم عندما عفا عنهم بعد أن قدر عليهم.
وإن ينسَ المسلمون شيئاً فلن ينسوا ما فعله النصارى في الأندلس, تقول الدكتورة سينجريد هونكه: في (٢) يناير (١٤٩٢) م, رفع الكاردينال (دبيدر) الصليب على الحمراء القلعة الملكية للأسرة الناصرية؛ فكان ذلك إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على إسبانيا, وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال القرون الوسطى.
وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضاراتهم وثقافتهم. لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه، كما حرِّم عليهم استخدام اللغة العربية والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي, ومن يخالف ذلك كان يحرق حيًّا بعد أن يُعذَّب أشد العذاب (١).
وهكذا قوِّضت أطناب الدولة الإسلامية في الأندلس، وانتهى الإسلام من تلك الربوع التي رفرفت فيها رايته ثمانية قرون، فلم يبقَ مسلم واحد في إسبانيا يظهر دينه.
وغير خافٍ ما قامت به محاكم التفتيش من التفنن في أساليب القتل والوحشية في المخالفين لها من المسيحيين، فضلاً عن المسلمين.
(١) ((قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله))، لجلال العالم (ص١٢).