للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كانت الحياة الاجتماعية في العالم الإسلامي قد انحرفت منذ بضعة قرون، لكن صورة الانحراف لم تبلغ أوجها إلا في مطلع العصر الحديث حيث أصبح المجتمع في أخلاقه وتقاليده وعاداته ينطلق من منطلقات غير إسلامية إذ غلبت الأعراف الجاهلية والعواطف المتهورة والعادات المستحدثة على الأخلاق الإسلامية الأصيلة، غير أن الناس بحكم العاطفة الدينية الموروثة وبما جبلوا عليه من الغيرة على فضائل الخلق كانوا ينسبون كل قيم وموازين وأعراف مجتمعهم للدين، أو على الأقل -يلتمسون لها فيه أصولاً، ورسخ ذلك الانحراف المتمسح للدين حتى أصبح هو الواقع الذي كان لدى الناس استعداداً للوقوف في وجه من يحاول تغييره سواء أكان مجدداً إسلامياً أم مفسداً أجنبياً، وهم - على أي حال - يبررون موقفهم بالاستناد إلى الدين.

وفي القرن الماضي احتك المجتمع الإسلامي المنحرف بالمجتمع الغربي الشارد عن الدين، ومنذ اللحظة الأولى أحس الغرب - المغرور بتقدمه المادي - بتفوقه الاجتماعي على الشرق الذي لا شك أنه كان فيه من الفضائل ما يفتقده الغرب، لكن نظرة الغالب إلى المغلوب لا تسمح بالرؤية الصحيحة عادة، لا سيما والروح الصليبية من ورائها.

وبالمقابل أحس المجتمع الشرقي بالانبهار القاتل واستشعر النقص المرير، ولم يتردد الغربيون الكفرة في القول بأن سبب تخلف الشرقيين هو الإسلام فقد استمدوا ذلك من الوهم الذي كان يسيطر على أولئك بأنهم مسلمون حقاً!

وهكذا كان الطريق مفتوحاً لمهاجمة الأخلاق وتدمير مقومات المجتمع من خلال مهاجمة ذلك الواقع المتخلق الذي لا يمثل الإسلام، وكان النموذج الغربي المشاهد - الذي فصل الأخلاق عن الدين -يزيد الأمر قوة ووضوحاً.

وإذا علمت قوى الصليبية الحاقدة - من مستعمرين ومبشرين ومستشرقين - أن البؤرة التي تتجمع فيها أصول أخلاق ومقومات المجتمع وغيره - فقد وضعت المخططات الماكرة لسلب هذه الميزة من المسلمين بإفساد المرأة المسلمة وإشاعة الدياثة بينهم.

ولما كانت الأمة الإسلامية هي المسؤولة - أولاً وآخراً - عن كل هذا، ولما كان الجانب الذاتي من المشكلة هو الأخطر والأهم، فسوف نوليه جل اهتمامنا.

........ ومنذ أيام محمد علي ابتدأت حركة الابتعاث إلى الدول الأوروبية، وكان من أشهر المبتعثين الأوائل الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي يعد كذلك من رواد الإصلاح. هذا الشيخ المبتعث كتب عن مدينة باريس "باريز "كتاباً يصف فيه لأبناء أمته الحياة الاجتماعية في فرنسا آنذاك، تعرض فيه لوصف النوادي والمراقص فقال:

"والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس ولم يكن ثم كرسي خال قام لها رجل وأجلسها ولا تقوم امرأة لتجلسها، فالأنثى دائما في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم أن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت " (٣).

هذا الكلام يوحي لقارئه بدلالات نذكر منها اثنتين:

١ - إن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء، فها هو المجتمع يمارس ألوان الدياثة التي لا يرضاها الدين طبعاً ولكنها مع ذلك ليست خارجة عن قوانين الحياء ولا يشم منها رائحة العهر بل هي معدودة في باب الأدب.

وقد نمت هذه الفكرة وترعرعت حتى قيل صراحة: إن الحجاب وسيلة لستر الفواحش وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق.

<<  <  ج: ص:  >  >>