للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إمّا أن يكون من حاكم مستبد، يفصل في الأمور برأيه، ويقضي فيها بحكمه وهذه هي الدكتاتورية التي ثارت عليها الشعوب في القرن الماضي، حتى ساد المذهب الثالث.

وهو أن يكون مصدر التشريع هو حكم الأغلبيّة بحسب العدّ المحض، الذي يعدّ الرؤوس ولا يزنها، فيجعل العاقل الحكيم المصلح، مساويا للجاهل الأحمق المفسد، والمؤمن الصالح الأمين، مكافئا للكافر الفاسق الخائن، وسيد القوم الشريف سديد الرأي، معادلا للمرأة التي ربما تكون عاهرة ..

فكلهم سواء في ميزان هذا الدين الجديد، فتُعدّ أصواتهم عدّا فحسب، ثم يُعرف بأكثر العدّ، الشرعُ الذي يجب أن يسيروا عليه، والنهج الذي يهديهم سواء السبيل!

ولئن قال قائل إن هذا الحمق، والجهل، والضلال المبين، لا يمكن أن يتواطأ عليه العقلاء، لأنه يعرف بالبداهة فساده، ويتبين بمنطق الأمور مناقضته للعقل الصريح.

فالجواب أنهم علموا أنّه لا فرق ـ في الحقيقة ـ بين هذا الدين الجديد، وما قبله، لأنّ فئة قليلة قادرة على التأثير على الغالب بالترغيب والترهيب، ستسيطر على عدد الأصوات، فيصير التشريع بأيديهم، علموا ذلك، غير أنهم وجدوا أنّ إبقاء اللعبة التي تُسمّى الديمقراطية، في ظاهرها تخدع الشعوب، وتخدّرهم يوم التصويت، أنفع لهم من المجاهرة بأنهم مستبدون، يبتغون الاستيلاء والهيمنة بشعارات خداعة.

وهذا يُشبه ـ من وجه ـ ما يسمى الشركات المساهمة، حيث يظنّ المساهمون أنهم تّجار بما يملكون من أسهم في الشركات، بينما يتحكم في الشركات الكبار الذين يخدرونهم بتلك الخدعة، حتى يملكوا أموالهم، كما ملكت تلك الخدعة المسماة الديمقراطية عقولهم وإرادتهم، ولهذا قال أحد المفكّرين الغربيين: إنّ أكبر كذبتين في التاريخ هما الديمقراطية، والشركات المساهمة!

ولهذا كان ما فيهما من الفساد العام، ومحق البركة من المجتمعات ما فيهما.

والمقصود أنّ سدنة هذا الصنم قالوا: إنّ التشريعات التي تنتج عن حكم الأغلبيّة، مقدمة على كلّ حكم آخر حتى شريعة الله تعالى، وأنها ملزمة للشعوب، فهي شريعة كاملة، وأحكام نافذة، والخارج عليها مجرم، والمتمرد عليها خائن، والساعي في تعطيلها مرتد يحكم عليه أحيانا بالإعدام، أو الحبس المؤبد، أوالنكال الشديد، ثم جعلوا لهذا الدين خبراء يطوّرونه، أطلقوا عليهم اسم (فقهاء القانون) كما أطلقوا على آراءهم (الفتوى)، إمعانا في المضادة لشريعة الله تعالى واستبدالها بغيرها.

وبهذا يتبين أن هذه القوانين الوضعية، ترجع إلى أصل عقدي، هو دين الديمقراطية، تنبثق منها على أساس إعتقاد أنّ الحكم بين الناس، والتشريع لهم، لا يرجع فيه إلى الله تعالى خالق البشر بل إلى البشر أنفسهم.

المصدر:دليل العقول الحائرة في كشف المذاهب المعاصرة لحامد بن عبد الله العلي

<<  <  ج: ص:  >  >>