للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد أصبحت عبادة المادة هي الأساس المشترك لجميع الملاحدة على اختلاف مذاهبهم ابتداء من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين إبان قيام التيارات الفكرية الجامحة في أوربا ضد الكنيسة وضد القائمين عليها واستبدالها بالمادة المهيمنة على كل شيء إذ يزعمون أن الكون وما فيه إنما وجد من أصل المادة وبنوا عليها إلحادهم في إنكار وجود الله تعالى فخرجوا بذلك عن مفهوم هذا التعريف للمادة وتجاوزوه فإن الأمور الغيبية وأمور الدين لا تخضع لتجربة الإنسان ولا تدركها حواسه كما بنوا عليها تفسيرهم التاريخي لحياة الإنسان وتطوراته. وكان الماديون الشيوعيون قد أقاموا هذه الفكرة في مضادة أي شيء يتعلق بعالم الروح والغيب حيث لا يؤمنون بوجود الروح لأنها تباين المادة التي إذا وجدت في شيء أعطته الحياة ضرورة فالمادة هي كل شيء وجعلوها البديل عن الله عز وجل بزعم أن معاملهم أعطتهم الدليل المادي على ذلك ولقد كذبوا وتناقضوا وظهر جهلهم وتخبطهم في نظرياتهم المتضاربة المتناقضة، فالطبيعة عندهم هي قبل كل شيء ولا نهاية لها ومنها انبثق كل مخلوق على وجه الأرض وأنها موجودة بذاتها قبل كل ذات وهي الخالق لكل شيء بقوانينها " وأن العالم في حركة تغير مستمر، وأن هذا التغير يأتي عن طريق تناقض الأضداد وكل فكرة تؤدي إلى نقيضها والفكرة ونقيضها تؤديان إلى نتيجة جديدة (١) " كلها ناتجة عن ترابط الأشياء بعضها ببعض ولا يمكن أن يكون أي حادث منفصلا بنفسه عن البيئة المحيطة به في حركة دائبة يسمونها " الحركة في الطبيعة " أي أن كل موجود إنما هو نتيجة لحركة المادة وتطورها بدءا وانتهاءً تنشأ ثم تضمحل أبد الدهر في تطوير يسمونه أيضا " التطور في الطبيعة " ويتم هذا في حركات سريعة ضرورية وأحيانا تحصل فجأة تنتقل معها الأشياء من البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى في تطور متلاحق طول الوقت مما ينتج عنه ما يسمونه " التناقض في الطبيعة " وهذا التناقض هو الذي ينتج عن تطور الحوادث وتفاعلها فيما بينها لينتج من التناقض بين القديم والجديد وبين ما يموت وما يولد وبين ما يفنى وما يتطور مصادر تطورية جديدة مختلفة بمعنى أنه يحدث الشيء حتما ثم يحدث ما يضاده لتأتي النتيجة الحتمية الصحيحة ومن هنا تؤيد الشيوعية التصادم والتضاد بين الأمور لتصل إلى النتيجة من وراء كل تضارب وتصادم (٢).

وكل ذلك إنما هوس فكري وتخبط مقيت وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:٣٩]، وكلها افتراضات يريدون من وراءها أن تحل المادة محل الإله سبحانه وتصريفه الأمور حسب مشيئته وقدرته وتلك التعليلات العقيمة لوجود الأمور بعد أن لم تكن إنما هو لصرف الذهن عن قدرة الخالق على الإنشاء والإيجاد وإلا فأي منطق يقتنع بأن الأمور تتطور لمصلحة الإنسان أو لمضرته من تلقاء نفسها لتنتج أمورا لابد منها بزعمهم لتستقيم الحياة ويبقى الكون.

لقد حاول الماديون وهم ينكرون موجد هذا الكون أن يلفقوا شبهات كثيرة ليدللوا بها على إلحادهم ولكن ما من شبهة من شبههم إلا وهي تصفع وجوههم وتكسر قلوبهم وتقول لهم معاذ الله أن أكون دليلا على عدم وجود الذي أوجدني فما إن يجدوا أدنى شبهة يكتشفونها إلا وطاروا فرحا وزعموا أن كل ما اكتشفوه يدل على عدم وجود موجد حقيقي غير المادة وطبيعة المادة الحتمية بزعمهم.


(١) ([٤٥٠]) ((التطور والدين))، (ص٢٦).
(٢) ([٤٥١]) ((الحرية في الدول الاشتراكية)) (ص١٣٥)، نقلا عن ((الاتجاهات الفكرية))، (ص٨٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>