للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا زعموا أن العلم أوصلهم إلى أن الكون إنما وجد من مادة وأنه لا أثر للخالق فيه، وبالتالي فلا حاجة مع وجود هذه العلوم والاكتشافات إلى القول بالخالق وسبحان العليم الحليم. وقالوا متعالين: لقد كان الإنسان القديم يعتقد أن خروج الكتكوت من البيضة إنما كان بقدرة إلهية أما اليوم فقد علمنا أن الكتكوت بعد ٢١ يوما يظهر على منقاره قرن صغير يستعمله في تكسير قشرة البيضة فيخرج منها ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة (١).

إنهم حين يقفون عند هذا الحد في خلق الكتكوت تفوتهم أمور كثيرة لا يستطيعون الجواب عنها هي أشد من تكسير البيضة، إذ يقال لهم: كيف يظهر هذا القرن؟!!، ومن الذي منحه هذا القرن الضروري لخلاصه من البيضة؟!!، فإذا قالوا: إنها الطبيعة، فيمكننا أن نقول لهم: إن هذه الطبيعة التي تقولون بها هي سنة الله تعالى في تكوين خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وأنها هي الله تعالى الخالق المدبر، فيصبح الخلاف في وجود الله بين المؤمنين والملحدين خلافا لفظيا.

ومهما اكتشف العلماء من اكتشافات، فإنها تبقى في حاجة إلى بيان القوة المؤثرة الخفية فيها الذي حاد عنها الملاحدة وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:١٤].

وكلام الله هو الدليل القاطع، فقد أثبت الله تعالى أن الإنسان مهما كابر عقله، فإنه يعلم في قرارة نفسه أن الشيء لا يوجد نفسه، وأن العدم لا يوجد الموجودات المشاهدة المنتظمة في أكمل وأدق نظام، والمادة التي جعلت إلها في نظرهم هي نفسها مخلوقة مربوبة حتى وإن وصفوها بصفة الإله.

ومن الملفت للنظر أن هذا الإله المختلق – المادة – لا يصفونه بالحكمة ولا القصد ولا التدبير وهذا ما أكده " دارون "، و " أنجلز " و " ماركس " ومن سار على منهجهم في زعمهم فوضوية المادة على أن هذا الإلحاد الذي قرره " دارون "، و " ماركس " و " أنجلز " لم يكن وليد أفكارهم وإنما أنشأته ظروف كثيرة قبلهم ومنها الحياة الدينية في أوروبا حينما انفصلت عن كل شيء يشير إلى الدين الصحيح وحل محله طغيان رجال الدين الكنسي الذي نتج عنه بغض الدين وبغض مصدره وهو ذلك الإله المنحاز إلى الطبقات الثرية وإلى رجال الدين والحكام ولا شأن له بالفقراء والمغلوبين على أمرهم.

ومما لا ريب فيه أن هذا المفهوم الباطل للدين والإله أمر لابد أن يولد عنه الإلحاد متى اقتنع الشخص بصحته، كما أن استغلال الطبقات القوية للفقيرة وإذلالهم باسم ذلك الإله الذي صوروه قوة عاتية إلى جانبهم فقط يعذب من أغضبهم ويرضى عن من أرضاهم من شأنه أن يساعد على نشأة الإلحاد أيضا.

ومن هنا شعر الجميع بوجوب الهرب من وجه هذا الإله المتصف بتلك الصفات إلى إله آخر له كل صفات الإله الأول إلا أنه لا يعترف بالكنيسة ولا يبارك ظلم طغاتها ولا يلزم الناس تجاهه بأي التزام وعباده أحرار فيما يصنعون بأنفسهم لا سلطان لأحد عليهم إلا الهوى والشهوات لقد استراح من أراد الهرب من إله الكنيسة إلى الإله الجديد المسمى " الطبيعة " مادام بينهما هذا الفارق الكبير في السلوك وتفنن بعد ذلك هؤلاء الهاربون في إضفاء الصفات على هذا الإله الذي تخيلوه وأحبوه وسموه الطبيعة.

ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنه إله وهمي متخيل لا حقيقة له إلا من خلال أنه ملاذ وجداني أرحم من إله الكنيسة حتى وإن كان غيبيا وكانوا كلما وقفوا على شيء يدل على الإله العظيم رب العالمين سارعوا إلى تفسيره لصالح هذا الإله المتخيل مخافة أن يقعوا مرة أخرى في قبضة رجال الكنيسة وصدق عليهم قول الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:١٤]. أو قول الشاعر:

"كالمستجير من الرمضاء بالنار"

إن الملاحدة هربوا عن اسم الله والإعتراف به إلى اسم آخر أعطوه نفس القدرة ونفس صفات الإله الحقيقي دون أي مبرر إلا الهرب من إله الكنيسة دون أن يرجعوا إلى عقولهم وإلى سؤال أنفسهم بصراحة وصدق هل هذا الإله الذي جعلته الكنيسة ستارا لطغيانها هو فعلا الإله الحقيقي أم أنه إله مخترع وورقة رابحة في أيدي الطغاة. إنهم لو طلبوا الحقيقة سيجدونها واضحة صريحة وسيجدونها في مكان لا يقل كراهتهم له عن كراهيتهم للكنيسة إنه الإسلام الذي سيبين لهم، لو أرادوا، الحق الصحيح الإله الحقيقي الرحيم العادل بين عباده.

المصدر:المذاهب الفكرية المعاصرة لغالب عواجي ٢/ ١١٦٦


(١) انظر: ((المذاهب المعاصرة)) (١٩١).

<<  <  ج: ص:  >  >>