للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال الكلبي: وانما كان القوم، إذ ذاك على توحيد الله، وايثار طاعته، فأعطاهم التي كانوا فيها من خير الجنتين وغيرهما. فلما قدم عهدهم حادوا عن التوحيد، واتخذوا أوثانا فعبدوها من دون الله ز فلما فعلوا ذلك وعظهم عمران بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امريء القيس ىبن مازن بن الازد بن الغوث، وكان كاهنا عنده علم، وقد رأى في كهانته أن بلدهم تخرب ان لم يرجعوا إلى التوحيد، فعصوه، واستخفوا به، فأمسك عنهم حتى حضرته الوفاة. ويقال انه عمّر فيهم ستمائة سنة وخمسون سنة. ويقال انه عمّر فيهم اربعمائة سنة وست واربعين سنة. وكان عقيما لم يكن له عقب. فلما حضرته الوفاة، دعا اخاه عمرا، وهو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة، فوعد اليه ان القوم هالكون، فلتعمل على نفسك واوصاه ان يتزوج طريفة بنت سعد، وكانت امرأة من أهل ردمان، من حمير، وكان عندها علم من كهانتهم، وعلم هلكتهم، مثل ما عنده.

فلما مات عمران، ولم يكن له عقب، طلب اخوه عمرو بن عامر ن طريفة، وتزوجها فأقامت عنده، ولم يرزق منها ولدان. وكان عمرو بن عامر، يومئذ، سيد أهل مأرب، وصاحب أمرهم، وكان له بمأرب من القصور والحدائق، ما لم يكن لاحد غيره بها مثلها.

قال: وكثر تغيير القوم، فقيض الله بعض من كان على دين صالح، فدعاهم إلى الله ن والمراجعة إلى ما كانوا عليه من المعرفة، بحق الله والشكر له، والقيام بطاعته، والاحسان فيما انعم الله به عليهم. فجحدوا نعمة الله ن وكذبوا رسله، وقالوا ما نعرف الذي ارسلك، وما زلنا في هذا الخير، وآباؤنا من قبلنا، فان كنت صادقا فادعه يذهب به، فلما كذبوه دعا الله ان يغير ما بهم. فوعده ان يستجيب له.

قال: وان عمرو بن عامر رأى في المنام، ان سحابة غشيت ارضهم فارعدت وابرقت، ثم صعقت فأحرقت ما فيها، ثم وقعت على الارض. لم تقع على شيء الا احرقته. فقامت طريفة وقد ذعرت ذعرا شديدا، وهي تقول: يا عمرو بن عامر، ان في قلبي لزمجريرا ان ما قد رأيت في الغيم، قد اذهب عني النوم. رأيت غيما قد ابرق، ورعدا طويلا، قد اصعق، فما وقع برقه على شيء الا احرقه - فما بعد هذا الا الغرق. فلما رأى عمرو ما تداخلها من الرعب سكّنها، حتى سكنت، ثم سألها عما اعلمها اخوه. وقال: يا طريفة، هل لهذا السد من انهدام، ام لهذه النعمة من انصرام؟ قالت: اجل، ما اقرب الاجل، فقد دالت الدول، فقال لها: اعطيني قصة الخبر. قالت: الامر قد حل، والبلاء قد جل، والعز قد ذل.

ثم ان عمرو بن عامر، دخل حديقة من حدائقه، ومعه جاريتان له، فبلغ ذلك طريفة، فخرجت نحوه، وامرت وصيفا لها يقال له سنان أن يتبعها، فلما برزت من باب بيتها، عارضها ثلاث مناجد منتصبات على ارجلهن، واضعات ايديهن على اعينهن. والمناجد: دواب تشبه اليرابيع. وقيل بل هي الفأر التي لا عيون لها، فلما رأتهن طريفة، رفعت يدها، وقالتلوصيفها سنان، إذا ذهبت هذه المناجد، فأعلمني. فلما ذهبت المناجد اعلمها. فخرجت مسرعة، فلما عارضها خليج الحديقة، التي فيها عمرو نبت من الماء سلحفاة، فوقعت في الطريق على ظهرها، وجعلت تريد الانقلاب، فلا تستطيع، وتستعبث بذنبها فتحثو التراب على بطنها وجنبها، وتقذف بالبول، فلما رأت طريفة جلست على الارض، فلما عادت السلحفاة إلى الماء، مضت طريفة حتى دخلت الحديقة التي فيها عمرو ابن عامر، حين انتصف النهار في ساعة شديدة الحر، واذا الشجر يتكفأ من غير ريح، فنفذت حتى دخلت على عمرو بن عامر ن ومعه الجاريتان، على الفراش. فلما رأت طريفة، استحيى منها، وامر الجاريتان، فنزلتا عن الفراش. ثم قال: هلمي يا طريفة إلى فراشك.

قالت: والنور والظلماء، والارض والسماء، ان الشجر لهالك وليغمرن الماء.

قال عمرو: ومن اخبرك بذلك، يا طريفة؟ قالت: اخبرتني المناجد بسنين شدائد، تقطع الولد والوالد.

قال: فما تقولين؟ قالت: اقول ان النادم لهف، وقد رأيت السلحفاة تحرف التراب حرفا، وتقذف البول قذفا، فدخلت الحديقة، فاذا الشجر يتكفأ.

قال: ما ترين ذلك؟ قالت: هي داهية وكيمة، أي محزنة، ومصائب عظيمة، بأمور جسيمة.

قال: ما هي؟ ويلك!! قالت: اجل، ان لي فيها الويل، ومالك فيها من النيل، فلي ولك الويل، مما يجيء به السيل.

<<  <   >  >>