للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فألقى عمرو نفسه على الفراش.

وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: امر جليل، وحزن طويل، وصيف قليل، والقليل خير من تركه.

قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: اذهب إلى السد، فان رأيت جرذا يكثر بيديه في السد الحفر، ويقلب برجليه الصخر، فأعلم بأن العقر عقر، وان قد وقع الامر.

قال: وما هذا الامر، الذي قد وقع؟ قالت: وعد من الله نزل، وباطل بطل، ونكل بنا نكل. فانطلق بنا ايها الملك فشاهد السد.

فانطلق عمرو، إلى السد، فحرسه، واذا حوله الفأر قد دار به كله، واحدق به، فأمر بجميع الهررة، وارسلها على الفار. فبينما هم كذلك ينظرون اليها إذا هم بجرذ عظيم يقاتل هرا، حتى قتله، فاستعظم عمرو ذلك عمرو، وايقن بهلاك القوم، وكل ذلك، واهل مأرب لا يدرون بشيء من هذا، وذلك انه كان يكتمه منهم، فدار إلى مكان من السد آخر، فاذا هو بجرذ له اظفار ومخاليب من حديد ينشبها في السد، ويقلع الصخر، يدحو به كل صخرة، لا يقلبها الا خمسون رجلا، فرجع إلى طريفة فأخبرها بذلك. وقال: لقد رأيت من هذا الجرذ امرا عظيما. قالت طريفة: ليس هذا من الجرذ، هذا امر من السماء، ليس له مدافع فانج بنفسك. ومن علامة ما ذكرت لك، ان تجلس في مجلسك بالجنتين، تأمر بزجاجة، فتضع بين يديك، فان الريح ستملأها بطحا من سهلة الوادي، وقد علمت ان الجنتين قد ظللتا حتى لا يدخلها شمس ولا ريح، فأمر بزجاجة فوضعها بين يديه في مجلسه، فلم يلبث الا قليلا حتى امتلأت بطحا. فأخبر طريفة بذلك. وقال لها: ما ترين هلاك السد. قالت فيما بينك وبين سبعين سنة. قال: في ايها: لا يعلم ذلك الا الله، ولو علمه احد لعلمته، ولا يأتي عليك يوم وليلة، فيما بينك وبين سبعين سنة، الا ظننت ان هلاكه سيكون في ذلك اليوم أو تلك الليلة.

فعرف عمرو ان ذلك واقع وان بلادهم، ستخرب. فكتم الامر واخفاه، وعزم ان يبيع كل ماله بأرض سبأ، ويخرج هو وولده. ثم خشي ان ينكر الناس ذلك، فجمع بنيه، وكانوا ثلاثة عشر رجلا. فقال لهم: احتالوا لانفسكم. فقالوا: يا اباه كيف؟ فقال: اني محتال لكم بحيلة، فأمر بابل فنحرت، ووضع طعاما واسعا. وبعث إلى أهل مأرب، ان عمرو ابن عامر، قد صنع يوم مجد وذكر، فاحضروا طعامه. ثم التفت إلى اصغر ابن له، يقال له وادعة أو مالك، ويقال بل كان ابنه ثعلبة، ويقال بل دعا يتيما كان في حجره، والله اعلم، انى ذلك كان. وقال له: إذا انا جلست اطعم الناس، فاجلس ونازعني الحديث، واردد علي، وافعل بي، مثل الذي افعل بك، فاذا امرتك بأمر فلتغفل عنه، فأذا شتمتك فلتقم اليّ فتلطمني. ثم التفت إلى اولاده، فقال: إذا لطمني فلا تغيروا عليه، فاذا رأى الجلساء انكم لا تغيرون على اخيكم لم يجسر احد ان يغير عليه، فأحلف عند ذلك يمينا بالله لا كفارة لها اني لا اقمت بين اظهركم، قام اليّ اصغر بنيّ فلطمني، ولم تغيروا عليه. قالوا نفعل.

فلما جاء أهل مأرب، وجلس، يطعم الناس، ومعه بنوه، وقد اجلس عنده الذي امره بما امره، جعل ينازعه الحديث ويردد عليه، وامره عمرو ببعض امره، فلها عنه، ثم امره، فلها عنه، فشتمه، فقام ابنه، فقبض على لحيته، ولطم وجهه. فنظر الناس، وعجبوا من جرأة ابنه ونكسوا رؤوسهم، وعظموا الذي جاء منهم، وظنوا ان اولاده يغيرون ذلك، فلم يغيره احد، فعند ذلك صاح عمرو، واذلاه، يوم فخر عمرو ومجده، رضي بشتم، وضرب وجهه، وحلف ليتحولن عنهم. وليتبدلن بداره، ولا يقيم ببلد صنع به مثل هذا. ولا تقيم بين اظهر قوم لم يغيروا على ابنه، وليبيعن عقاره وامواله. فقام القوم اليه معتذرين، فقالوا: كنا نظن ان اولادك يغيرون، فذاك الذي منعنا. قال: قد سبني من ترون، فليس اليّ غير تحويلي.

فعرض ضياعه للبيع، وكان الناس ينافسون فيها، ويغالبون بها. فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضب عمرو، فاشتروا منه امواله، قبل ان يرضى فاشترى الناس لكل الذي له من ارض وضياع بالرخص، وهم لا يعلمون الخبر.

ثم فشى بعض حديثه، فيما بلغ من شأن سيل العرم، فخرج هذا الحديث إلى الناس، من الازد، فباعوا أموالهم، فلما كثر البيع، استنكر الناس ذلك، فأمسكوا واجتمعت إلى عمرو بن عامر، أثمان ماله. وأخبر الناس يومئذ بأمر السيل العرم. فخرج من مأرب ناس كثير. وأقام من قضي عليه ان يصيبه.

<<  <   >  >>