وسلم هناة عنه الدية من ماله، ووفى له بما عهده، وطمع أن يصلح ذات بينهن. فكان هناة أرأف ولد مالك، وأسيدهم سيرة في إخوته وقومه. ثم ان معنا خلا زمانا لا يتعرض لسليمة بمكروه. إلى أن أكل الدية من يده. ثم انه جعل يطلب غفلة سليمة ويبايع عليه سفهاء قومه بحيث لا يعلم به من اخوته قومه، وبلغ ذلك سليمة فأقسم أنه لا أقام بأرض عمان.
وقد بلغه من معن، ما بلغه من العذل، فاعتزل اخوته، وأجمع رأيه على ركوب البحر. فخرج هاربا في نفر من قومه. وقطع البحر حتى وصل بأرض فارس وكرمان، لذلك السبب. فلما رأى أخوة ثعلبة بن مالك، اعتزل أخوته، وخرج مراغم عند اخواله، من تنوخ. فصار فيهم، وسارت تنوخ بأجمعها، حتى لحقت بجذيمة الابرش بن مالك بن فهم، وهو يومئذ ملك الحيرى. ثم انتشروا من بعد ذلك إلى الشام والجزيرة فتفرقوا بها، وهم إلى الآن كثيرون هناك. فولد ثعلبة بن مالك بن فهم الازدي في تنوخ إلى اليوم. وقد ذكرنا قصته فيما تقدم فمن ولده: القفص، وهم أصحاب كرمان، والمتوجات. غير ما تفرق منهم بأرض فارس وجزائرها، ورجع منهم إلى عمان.
وقد ذكر بعضهم، أن سليمة بن مالك، لما قدم أرض فارس كان أول موضع نزل فيه من ساحل البحر، بر، جاشاه، وانه تزوج امرأة منهم من قوم يقال لهم الاسفاهية، فولدت له غلاما فولده منها يسمون بني الاسفاهية، نسبوا إلى امهم. وأن سليمة بينما هو ذات يوم بين حاشيته، إذا ذكر أرض عمان، وانفراده عن اخوته وقومه، وما كان فيه من العز والسلطان فأنشأ يقول:
كفى حزنا أني مقيم ببلدة ... أخلائي عنها نازحون بعيد
أقلب طرفي في البلاد فلا أرى ... وجوه أخلائي الذين أريد
ثم أنه رحل من برجاشاه، حتى نزل إلى ارض مكران. فأقام بها عند ملوك بعض اهلها، وانتسب اليهم. وقال: إني رجل من أهل بيت كان لنا الملك في العرب وكان لأبي عدة من الولد، وكنت أنا أقربهم اليه وأحبهم، فحدسني أخوتي مكاني من أبي، وكان ذلك سبب قتل أبي على يدي. ثم انه أخبرهم بقصته وأمره، وقال: إني قدمت إلى هذه البلاد مستجيرا بأهلها، ومستعديا بهم، وقد رجوت الله ان يمن علي بجوارهم، ويشد ازري بمكانهم.
فلما انتسب إلى أهل مكران، وعرفهم قصته، وما كان من أمره، س عرفوه وتبينوا موضعه، ومكانه، وشرفه من آبائه وقومه. فأنزلوه وأكرموه واعجبهم ما رأوا من فصاحته وجماله، وكمال أمره، فرفعوا قدره، س واكرموا منزلته، وزوجوه بإمرأة من كرائم نسائهم.
ويقال ان سبب تزويجهم إياه أن سليمة لما قدم إلى أرض كرمان، وانتسب إلى أهلها وملوكها، س وعوفوا موضعه وشرفه من آبائه وقومه، أرادوا أن يزوجوه بامرأة من بنات ملوكهم. وكان الملك إذ ذاك على أرض كرمان، حين قدم سليمة إلى أرضهم، بعض ولد دارا بن دارا بن بهمن. وكانوا قد كتموا مجيء سليمة وقدومه عليهم مخافة ان يعؤض له سبب ما كان من أبيه، مالك بن فهم، وأخيه جذيمة الأبرش، إلى ملوك فارس، وكان ملكا جبارا كثير العسف والظلم لأهل مملكته وقومه. وكان قد بلغ من أمره، أنه ما زُفَّتْ عروس على بعلها، حتى يؤتي بها إليه فيصيبها قبله، وإلا قتل بعلها، وبدد أهلها. فكان ذلك دأبه في أهل كرمان إلى أن قدم عليهم سليمة بن مالك فرأى ما صنع الملك عندهم، وشكوا عند أمره وحكوا اليه قصته، وما يصنع عندهم في آبائهم، وما يلقون منه من العسف والظلم، فانهم لا يتوصلون إلى دفعه بحيلة من كثرة حرسه وحجابه ومنعته.
فقال سليمة: وماذا لي عليكم ان انا كفيتكم أمر بأسه، وارحتكم من سلطانه؟ قالوا: وأَنَّى لك ذلك، ولم يرمه أحد من أهل العز والسلطان ممن كان قبلنا؟!! فقال سليمة: تدبير الأمر في ذلك عليّ، فماذا لي عليكم.
قالوا: ما شئت.
قال: فإذا اردتم ذلك فيجتمع إليّ من الغد أهل الوفاء والتقديم منكم قالوا: نعم.
فلما كان من الغد اجتمع اليه عظماء أهل كرمان وأهل الوفاء منهم وجرى الكلام بينهم كما جرى بالأمس.
فقال سليمة: إن امكنتموني مما اشترط عليكم دبرت الأمر.
قالوا باجمعهم: لك ما شرطت، طلبت وسألت.