للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أنفسهم أو خاليًا بهم، فإن النصح في السر أنجع {قَوْلًا بَلِيغًا} يبلغ منهم ويؤثر فيهم، وتنويهًا للتعظيم بدليل وصفها بقوله: " وَجِلَتْ " بكسر الجيم خافت (منها) من أجلها (القلوب) لخلوها من القسوة واستيلاء سلطان الخشية عليه، وانزعاجها من ذكر الساعة وأهوالها والنار وعذابها (وذرفت منها العيون) بذال معجمة وراء مهملة وفاء مفتوحتين سألت دموعها وانصبت وكثر جريانها، وأخره عما قبله؛ لأنَّه إنما ينشأ عنه غالبًا فهو من عطف المسبب على السبب، وفيه إشارة إلى أن تلك الموعظة قد أثرت فيهم وأخذت بمجامعهم ظاهرًا وباطنًا. كيف لا وهى صادرة عن ذلك القلب السليم من كل الأدناس والروح الطاهرة القوية، روح رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وكان إذا خطب في أهوال يوم القيامة تأثر وظهر أثر ذلك في صوته وملامح وجهه، قال جابر بن سمرة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطب فذكر الساعة، اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم بعثت أنا والساعة كهاتين" وقرن بين أصبعيه. رواه مسلم.

شبه حاله في خطبته وإنذاره بقرب القيامة مع تهالك الناس فيما يرديهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم يقصد الإحاطة بهم بغتة فلا يفوته منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته وتحمر وجنتاه ويشتد غضبه على تغافلهم فكذا حاله صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنذار، ومنه يؤخذ أنه ينبغى للعالم أن يعظ الناس ويذكرهما ويخوفهم عاقبة الإهمال والتفريط في طاعة الله، ويحثهم على ما ينفعهم في دينهما ودنياهم ولا يقتصر بهم على مجرد معرفة الأحكام، وأنَّه ينبغى المبالغة في الموعظة لترقيق القلوب فتكون أسرع إلى الإجابة.

ثم إن الغرض من هذا التمهيد التنبيه على فخامة القصة وغرابتها وإلَّا فكان يكفى الاقتصار على أوصنا "فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودِع" بكسر الدال والقائل بعضهم كما في رواية الترمذى ولعلهم فهموا ذلك من مبالغته في الموعظة

فوق العادة فظنوا أن ذلك لقرب وفاته ومفارقته لهم، فإن المودع يستقصى ما لا يستقصيه غيره في القول والفعل (فأوصنا) من الوصية وهى التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنًا بوعظ وتطلق على

<<  <   >  >>