للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفصل الثاني في تقسيم السنة إلى فعلية وتَرْكية

وهو الأساس الأول للكلام في السنة والبدعة، والغلط الحاصل فيهما منشؤه الغفلة عن هذا الأصل، وهو أنه قد تقرر في فمن الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كان مما ظهر فيه أمر الجبلة كالأكل والشرب والقيام والقعود فلا نزاع في كونه على الإباحة له صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته عند الجمهور، وإن كان من خواصه كوجوب التهجد بالليل والمشاورة والتخيير لنسائه وكإباحة الوصال في الصوم والزيادة على الأربع في النكاح ودخول مكة بغير إحرام فلا يدل على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعًا. وإن كان فعله بيانًا لنا كصلاته الظهر أربعًا والمغرب ثلاثًا والصبح ركعتين، فإنه بيان لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" رواه البخارى. وكقطعه يد السارق من الكوع، فإنه بيان لقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (١). وكتيممه إلى المرفقين بيانًا لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (٢). فهذا البيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة، وما ليس جبلة ولا مختصًا به ولا بيانًا، فإما أن يظهر فيه قصد القربة كخلعه صلى الله عليه وآله وسلم نعله عند الصلاة، وحلقه رأسه في الحديبية حين أمر الصحاية به فلم يفعلوا حتى حلق فقيل: هو للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: للإباحة، وقيل: بالوقف. واختار الشوكانى كونه للندب، فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها والمتيقن مما فوقها الندب، وبه قال ابن الحاجب، واختار الآمدى كونه للقدر المشترك بين الواجب والمندوب وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير. والفعل دليل قاطع عليه وما اختص به الواجب من الذم على الترك وما اختص به المندوب من عدم اللوم على الترك فمشكوك فيه - وليس أحدهما أولى من الآخر- وأما الإباحة وهى استواء الفعل والترك في رفع الحرج فهى خارجة عنه.

وإن لم يظهر فيه قصد القربة ففيه الأقوال الأربعة ورجح الشوكانى كونه للندب أيضًا معللًا بأن فعله صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يظهر


(١) [سورة المائدة: الآية ٣٨].
(٢) [سورة المائدة: الآية ٦].

<<  <   >  >>