للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نهى لهم عن الإفراط تارة، والتفريط أخرى، فمن الإفراط غلو النصارى في عيسى عليه السلام حتى جعلوه إلهًا، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة (ابن زنا)، وقال تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (١)،

وقال تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (٢)، وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا. رواه مسلم. المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد. (وعن) أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا" رواه البخارى. سددوا: الزموا السداد، وهو التوسط من غير إفراط ولا تفريط، وقاربوا: أي إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل فاعملوا ما يقرب منه.

إذا عرفت هذا فاعلم أن الشك الذى يطلب عنده الاحتياط والأخذ باليقين ما يكون له أصل ينبنى عليه ومثار يدعو إليه، كأخبار من لا يقبل خبره، وكثياب من عادته مباشرة النجاسة، وكالصلاة خلف من عادته التساهل، وكصيد رميته فوقع في الماء أو اجتمع عليه كلب المسلم والكافر.

(وأما الوسوسة): فهى حديث النفس والشيطان وأخذ بالوهم، فيحكم بنجاسة الثوب من غير علامة تعارض الأصل (الطهارة)، فيغسل الثوب الجديد أو الذى اشتراه، فهو يتخيل ما لم يكن كائنًا ثم يحكم بحصوله ويسمى ذلك احتياطًا، فصار نظير من ارتكب محظورًا وسماه بغير اسمه كما يسمى الخمر شرابًا، والربا معاملة، فالاحتياط الذى ينفع صاحبه هو الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها.

ومن هذا القبيل حديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل، والحلال بالحرام، من غير دليل على أحد الجانبين، أوتتعارض الأمارتان عنده فلا يترجح في ظنه أحدهما فيشتبه عليه هذا بهذا، فأرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلى. وأما التمرة التى ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكلها فذاك من باب اتقاء الشبهات وترك ما اشتبه فيه الحلال بالحرام، فإن التمرة كانت قد وجدها في البيت وكان فيه نوعان


(١) [سورة البقرة: الآية ١٩٠].
(٢) [سورة الأنعام: الآية ١٤١].

<<  <   >  >>