للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الترك هنا مطلوبًا فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات وأصله قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" رواه الجماعة. ذلك أنه يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت، وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس كترك الاستمتاع بما فوق الإزار من الحائض خشية الإتيان. فذلك من أوصاف المتقين، وكترك المتشابه حذرًا من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض، كما إذا وجد في بيته طعامًا لا يدرى أهو له، أو لغيره، وكمن أراد أن يتزوج امرأة فأخبرته امرأة أنها أرضعتهما ولا يعلم صدقها من كذبها، فإن ترك أزال عن نفسه الشك وإن تزوجها فإن نفسه لا تطمئن إلى حلها.

وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تدينًا أو لا، فإن لم يكن تدينًا فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. ولا يسمى هذا الترك بدعة إلَّا على الرأى الثانى القائل إن البدعة تدخل في العادات أما على الأول فلا. لكن التارك يصير عاصيًا بتركه أو اعتقاده التحريم فيما أحل اللّه.

وأما إن كان الترك تدينًا فهو الابتداع في الدين على كلا الرأيين، إذ قد فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل، كترك كثير من العباد والمتصوفة تناول الطيبات تنسكًا وتعبدًا للّه بتعذيب النفس وحرمانها، اتبعوا في هذا سنن من قبلهم شبراً بشبر وذراعًا بذراع كعباد بنى إسرائيل ورهبان النصارى، وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين من البراهمة الذين يحرمونا جميع اللحوم ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات وقهر الإرادة بمشاق الرياضات، وكترك أهل الآستانة أكل لحم الحمام، فهو يفرخ في مساجدهم وبيوتهم، ولا يأكل أحد منه شيئًا، بل يتحرجون من أكله وينكرونه، فإن كان تركهم له تدينًا لاعتقادهم حرمته فهو بدعة تركية وإلا لا مع عصيانهم باعتقاد التحريم فيما أحل لهم وفى مثله نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} (١) فنهى أولًا عن تحريم الحلال وأشعر


(١) [سورة المائدة: الآية ٨٧].

<<  <   >  >>