قلت: وفي ذلك فسحة للأئمة المجتهدين رضي الله عنهم، وأنّ كلّ مجتهد مصيب- أي: في الفروع- إذ لم يخصّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين بصواب ما ذهب إليه.
[شأن أبي لبابة رضي الله عنه]
فلمّا نزل صلى الله عليه وسلم بساحتهم، وحاصرهم/ واشتدّت عليهم وطأته، أرسلوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة- بموحّدة مكرّرة- الأنصاريّ الأوسيّ، وكانوا حلفاء الأوس، فأرسله إليهم، فلمّا أقبل عليهم تلقّاه النّساء والصّبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، فقالوا: أترى أن ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه- يعني: أنّ حكمه الذّبح- ثمّ ندم في مقامه، وعلم أنّه قد خان الله ورسوله، فلم يرجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ذهب إلى (المدينة) ، وربط نفسه بسارية في المسجد، وقال: والله لا أذوق ذواقا حتّى يطلقني النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، فأقام على ذلك سبعة أيّام لا يذوق ذواقا حتّى خرّ مغشيّا عليه، فنزل فيه: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التّوبة ٩/ ١٠٢] .
فتاب الله عليه، وغفر له ورحمه، فأطلقه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، ولم يطأ بلد بني قريظة حتّى مات، وكان يقول: والله لا أرى ببلد خنت الله ورسوله فيها، وكان له بها أموال فتركها رضي الله عنه.
[نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه]
ثمّ إنّ بني قريظة سألوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم ما قبل من إخوانهم بني النّضير، بأن يجلو عن بلدهم، ولهم ما أقلّت الإبل، فأبى عليهم لما تولّد من حييّ بن أخطب من الشّرّ، فنزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، فجاء حلفاؤهم من الأوس، وقالوا: هبهم لنا يا رسول الله كما وهبت بني قينقاع لحلفائهم الخزرج، فقال: «ألا